د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
مهرجان تاريخ الشعوب مناسبة سنوية جميلة تقيمها إدارة المنح في جامعة الملك سعود منذ ثمانية أعوام. تنمو وتكبر تلقائياً بما تجد من تفاعل وترحيب كبيرين من كل من حضرها ونتيجة لحماسة طلاب المنح لنشر ثقافتهم وبتشجيع إدارة المنح وإدارة الجامعة لهذا النشاط لانضباطه وتفاعل منسوبي الجامعة معه. وأعتقد، ومعي كثيرون،
أن هذا المهرجان في عمقه نشاط ثقافي في منتهى الأهمية جدير بالتطوير والدعم والتوسيع لأسباب كثيرة سأفصل بعضها.
أولاً، المهرجان مناسبة تثقيفية مهمة تنقل لنا تراث شعوب صديقة من قارات مختلفة ومتباعدة وتجمعها في حيز صغير نسبيا يبرزها ويجعل بعضها يضيء البعض الآخر. فالمهرجان صورة كلاديوسكوبية للثقافة الإِنسانية في أشكالها وألوانها البديعة، وينقل لنا المنتجات الثقافية التراثية الأصيلة بجمالها وبساطتها خارج نطاق رتابة أنماط الاستهلاك المملة التي أضجرتنا بها العولمة الاقتصادية بشكل مزعج أحياناً. ومما يزيد الأمر بهجة أن من يعرض هذه المنتجات الثقافية والمادية الفولكلورية هم أهل الثقافة ذاتهم ممن عاشوا بيننا نعرفهم ويعرفوننا، يعرفوننا بها ويشرحونها بكل رحابة صدر وبشكل مبسط مفهوم وكأنما الزائر في رحلة سياحية للبلد العارض. وقد كان تفاعلهم في جميع المناسبات رفيعاً وراقياً مع الأسئلة والتساؤلات الكثيرة التي طرحت مباشرة عليهم رغم أن بعضها تراوح بين الغباء والتعالي. والمهرجان مهم بشكل خاص للمهتمين بالجغرافيا الثقافية والدراسات الإثنية، فهذه فرصة تثقيف لا تعدلها عشرات ساعات المحاضرات.
ثانياً، نشتكي دائماً من الجهل بأفضل الطرق للتعامل مع الجاليات الكبيرة المقيمة بيننا وذلك لأننا نجهل الخلفيات الثقافية التي وفدت منها. ولو اطلعنا على الثقافة الجميلة لبلدانها لزادنا ذلك من احترامها وفهمها وسهولة التعايش معها. فالجهل العدو الأول للتعايش بين الثقافات. وكما أننا نسعى جاهدين لعرض تراثنا حول العالم في أي مناسبة تتاح لنا، فالمنطق ذاته يحتم علينا أن نرحب ونشجع الآخرين على عرض تراثهم لدينا.
ثالثاً، أهمية أن تعرض أكثر من عشرين دولة تراثها وتاريخها في موقع واحد وفي مناسبة تثقيفية كبيرة يتجاوز الجامعة إلى ما هو ابعد بكثير: الأسر، الشباب، تلاميذ المدارس، والمجتمع ككل. فالمهرجان متحف إيثنولوجي متحرك حي: تحف، أزياء، طعام، فلكلور، أناشيد، تفاعل الخ.. وليتنا نستغل جاذبية هذه المناسبة بإضافة التراث السياحي السعودي له كجزء من هذا التراث العالمي، ليتعرف الزائرون على تراث مملكتنا المتنوع جنباً إلى جنب مع التراث العالمي لنحس أننا جزء من هذا العالم الجميل المتنوع.
رابعاً، تعد المهرجانات الثقافية مناسبات حوارية شعبية تلقائية على قدر كبير من الأهمية، بل ان البعض يُعدُّ مهرجانات تراث الشعوب المناسبات الحوارية الثقافية الأهم، وينظر لها على أنها أهم مظاهر حوار الحضارات لأنّها تكون عادة بعيدة عن الشحن السياسي والعاطفي والتكلف الزائف للمناسبات الرسمية. وهناك مهرجانات من هذا القبيل في كثير من دول العالم. وما لم نهتم نحن بثقافات الشعوب الأخرى ونفهمها ونحترمها فلا يمكن أن نتوقع منهم الاهتمام بثقافتنا واحترامنا. ونحن نصرف مبالغ طائلة على مناسبات حوارية في الخارج محصورة على عدد قليل من نخب تلك البلاد فقط، يحضر معظمهم مجاملة أو لأهداف اخرى. وغالباً لا يتجاوز تأثير هذه الحوارات الفنادق التي تقام فيها لأن الإعلام الخارجي عادة يتجاهلها لأنه يعتقد أن الحوار فيها يكون باتجاه واحد يغلب على كثير من جوانبه طابع المجاملة. ومقارنة بذلك فهذه المناسبة الحوارية التي نبدى فيها ترحيبنا بالثقافات الأخرى تعد خير نافذة لاحترام ثقافتنا في العالم لو احسنا استغلالها.
خامساً، شاركت في المناسبة العديد من الدول الآسيوية والإفريقية المسلمة وغير المسلمة، وما عرض في المهرجان ينحصر معظمه في التراث الإسلامي لهذه الدول، وعرضه والتعريف به يعد تشجيعاً ودعماً له ومساعدة على حفظه ونشره. فحضرت المهرجان دول مثل مالي وبنين وتوغو ونيجريا وغانا وساحل العاج وغيرها وهي دول بها مسلمون ويجهل تراثها وتاريخ الإسلام فيها كثير من شبابنا بشكل شبه تام.
سادساً، ينظر اليوم لأفريقيا، ودول آسيا الوسطى المشاركة في المهرجان على أنها دول فتية شابة، وعلى أنها الأمل الاقتصادي لإخراج العالم من الركود الاقتصادي الذي شاخ واستحكم واستعصت عملية إنعاشه. والاقتصادات الأفريقية بالذات من الاقتصادات الواعدة الأسرع نمواً في العالم، وتشكل مناطق للصراع حالياً حول النفوذ الاقتصادي والسياسي والثقافي ليس بين الدول فقط ولكن بين الشركات والمستثمرين الأفراد أيضاً. وتقدم جميع الدول المتقدمة اقتصادياً منحاً دراسية كثيرة لأبناء هذه الدول في كافة المجالات لجسر العلاقات بينها وبينهم. فطالب المنحة ينظر لمكان دراسته على أنه بلده الثاني ويحتفظ بالولاء له خاصة إذا ما تبوء مركزاً مرموقاً في بلده. ولذا فتخصيص المنح ينظر له على أنه استثمار ثقافي واقتصادي بل وسياسي مضمون الربح. وبدلاً من أن نكتفي بإرسال دعاة ووفود ثقافية لتلك البلدان يمكننا أن نستثمر في أبنائها باستيفادهم لدينا ليكونوا أصول تواصل ثقافي مع هذه البلدان في المستقبل. واختلاط شباب الجامعة مع شباب من الدول الأخرى يوسع مداركهم ويعودهم على التعامل بدراية ومرونة مع الاخر مستقبلاً. فنحن اليوم أحوج ما نكون لنتوسع اقتصادياً وسياسيا في دول جديدة في آسيا الوسطى أو أفريقيا، حيث توجد فرص استثمارية واعدة وأسواق ناشئة بدلاً من الاعتماد الكلي على الأسواق التقليدية حيث توجد منافسة شرسة لنا وقيود كبيرة على منتجاتنا. وتوجد في هذه الدول ثروات من المواد الخام الطبيعية ولا تتوافر رؤوس الأموال لاستثمارها.
سابعاً، يجب علينا في نظري احترام ثقافات الشعوب الأخرى من ناحية أخلاقية كونها جزءا من الثقافة الإِنسانية والتراث الإِنساني الذي نحن جزء منه. وعلينا أن نعود الشعب السعودي على تفهم واحترام الثقافات الأخرى بكامل خصوصيتها، كما نود نحن أن تحترم خصوصيتنا، فهذا يوسع أفقه ومداركه ويبعده عن الغلواء والتعصب، وينمي روح التسامح لديه. فالتسامح لا يزرع لدى النشء بالمواعظ فقط بل بإدراكه بأنه جزء صغير من عالم أرحب وأكبر، عالم جميل ومتنوع، وبدون ذلك يتعمق لديه الإحساس بأن ثقافته أحادية الجانب وبأنها مركز الكون وهذا من أهم أسباب الإحساس بالانغلاق والاستعلاء الثقافي الوهمي، وكره الآخر وعدم احترامه.
لذا ففي تصوري فإنَّ الاهتمام بهذه المناسبة جزء من المسؤولية الاجتماعية للجامعة والمسؤولية الثقافية لرسالة التعليم ككل. ويجدر بنا أن نضع هذه المناسبة على جدول الفعاليات الثقافية الوطنية المهمة وأن تدعمها جهات أخرى ذات علاقة كهيئة السياحة والآثار ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام وغيرها. ويحتم علينا واجب الضيافة أن نتيح للوافد من التسامح والانفتاح ما يمكنه من عرض ثقافاته كما هي وكما يراها لا كما نرغب نحن.
والخلاصة أن دعم المنح الدراسية الخارجية الجامعية أمر مهم للغاية للتمدد ثقافياً وسياسيا واقتصادياً، ولإقامة جسور ثقافية مع العالم من حولنا. وتوسيع إدارة المنح في الجامعة أو حتى إنشاء إدارة للمنح في وزارة التعليم يشارك فيها مسؤولون من القطاع الخاص أيضاً أمر مهم، فهذا هو دأب الدول المؤثرة في العالم. ويمكن ربط ذلك بإقامة مراكز ثقافية سعودية في العالم تلحق بالملحقيات الثقافية تكون مهمتها نشر ورعاية الأنشطة الثقافية فقط بعيداً عن الأنشطة الأخرى. فنحن شعب له ثقافة عريقة تفاعلت تاريخياً مع ثقافات عديدة اخرى ولدينا مناطق ذات تكوين ثقافي متنوع فريد علينا واجب إبرازه، لإبعاد الصور النمطية التي تزداد تركيزا حولنا. فالتفاعل الثقافي على مستوى تراث الشعوب واهتمامنا بالثقافات الأخرى قد يسهم في تحسين صورتنا في العالم الذي شوهتها للأسف بعض الأعمال الإرهابية التي شارك فيها بعض شبابنا بسبب انغلاقهم الفكري. وهذه الأنشطة التلقائية أجدى وأنفع لنا من المناسبات الرسمية الخطابية الباذخة التي نقيمها في فنادق عواصم العالم الكبرى وتزيد من تعزيز الصورة النمطية المغلوطة عنا على أننا قوم باذخون نملك المال ولا شيء غيره.