د. محمد بن عبدالله آل عبد اللطيف
شغل العنف المفرط علماء النفس من وقت بعيد، فلم يتفهم أحد كيف يمارس الإنسان العنف ضد أخيه الإنسان بقسوة مفرطة وبلا رحمة. وذهب بعضهم إلى أن الإنسان مهما تحضر يخفي تحت قشور تحضره كائناً بدائياً عنيفاً، بينما ذهب آخرون إلى أن بعض القساة من البشر يفتقدون لإفراز هرمون في الدماغ يحفز لدى البشر الأسوياء حس «الغيرية» أو القدرة على تقمص إحساس الآخر وآلامه، ولذا فقد يستمتع بعضهم بتعذيب الآخرين ورؤية تعابير الخوف والألم على وجوههم.
وهذه الفئة من البشر تبحث دائماً عن مناسبات أو أسباب لممارسة متعها العنيفة التي يتقزز منها الأسوياء ويأنفون منها.
وبثت قناة العربية برنامجاً عن لبنانيين أستراليين هاجرا إلى الرقة بهدف الجهاد، وكان سمات شخصياتهما تتطابق مع هذا النوع من البشر. الأول خالد شروف والثاني بلال فتروني، وكانا في أستراليا أعضاء في عصابة لجبي الديون بالعنف، ويوظفان عنفهما بالأجر لدى مستثمر في العقار يدعى جورج إليكسي يوظفهما أيضاً عبر شركة حراسة خاصة وهمية لدى ملياردير كبير يدعى هاري توبوتوف الذي يملك أكبر شركة بناء في ميلبورن تسمى «ميرتون». البرنامج الوثائقي صُوِّر على ما يبدو في أستراليا وتمت ترجمته للعربية.
خرج خالد شروف وزملاؤه من السجن والتحقوا بحركة إسلامية في أستراليا تتسول بالعنف في المظاهرات والصدام مع الشرطة كوسيلة للاحتجاج نهاراً وتمارس جمع الديون بالعنف ليلاً. وظهرت صور عديدة لشروف وزملائه يتصادمون مع البوليس وهم ينشدون «الله مولانا ولا مولى لهم». وفي نهاية البرنامج يظهر شروف وزملاؤه يحملون رؤوساً مقطوعة في سوريا.
والأمر ذاته لم يختلف كثيراً في حالة إعدام الرهائن الآخرين، فمن يقوم بذلك «مجاهدون» بمواصفات مشابهة من بريطانيا، عاشوا وترعرعوا في عالم الجريمة السفلي ثم بقدرة قادرة تحولوا لناشطين مسلمين وجاهديين فيما بعد. ولو نظرنا لحالة أميلي كوليبالي، والأخوين كواشي المتهمين في فرنسا فهما حالة مشابهة أيضاً. فالجميع ينتمون لأقليات عرقية مضطهدة في الغرب لجأت للعنف والجريمة من أجل إثبات الذات والانتقام من مجتمعاتها، لتنحرف فيما بعد بطريقة أخرى لتمارس العنف بشكل أقسى للفت الانتباه والانتقام. فالإحساس بالنفي التام للذات قد يدفع البعض لا شعورياً لفعل أي شيء لاستعادتها.
ومن أجل ربط هذه الحوادث ببعضها وبما يحدث ويخطط له في المنطقة لا بد من فهم السياقات التاريخية التي تحدث فيها والنظر للصورة الأكبر لما يخطط للمنطقة. فهذه العينة من البشر هي عادة محط النظر لفئات تريد الاستفادة من ميولهم الإجرامية سواء على طريقة العصابات ورجال الأعمال لإرهاب العملاء والمنافسين، أو الاستخبارات لتحقيق أهداف سياسية أخرى، أو الجيوش لممارسة التعذيب في السجون. وغالبية المرتزقة الذين يمارسون القتل مقابل المال أو العاملين في شركات مثل «بلاك ووتر» التي مارست العنف والقتل والتعذيب في العراق بعقود مع الجيش الأمريكي هم من هذه الفئة، حيث يتطوعون بأنفسهم أو يعلنون عن خدماتهم لممارسة القتل مقابل المال.
فهناك على ما يبدو رابط بين الأحداث التي حصلت في أوربا وخاصة مهاجمة بعض الأماكن اليهودية، ودور العبادة أو التهديد الصريح بذلك، والعنف المقزز الذي تمارسه ميلشيات إسلامية سواء سنية أو شيعية بصورة قد تشي بما يخطط للمنطقة في المستقبل، ويتضح ذلك إذا ما نظرنا للعنف غير المعتاد الممارس باسم الإسلام سواء في العراق وسوريا أو في الغرب تمارسه فئات مسلمة ذات نشأة غربية بحتة. هنا يتضح ما يخطط ويدار لمنطقتنا رغم مشاركة بعض شبابنا السذج في ذلك. فبعد حرب أفغانستان اتضح للمخابرات الغربية مدى اندفاع وسذاجة بعض شبابنا بالشكل الذي يجعل التلاعب بهم بأي شكل باسم الجهاد عملية سهلة.
وقد صرح بين قوريون عند تأسيس إسرائيل بأن ضمان استمرار إسرائيل يكمن في تفتيت الدول القوية المجاورة لها، العراق، وسوريا، ومصر إلى دويلات صغيرة على أساس مذهبي وطائفي. وهذا هو ما يحصل أمام أعيننا وسط هدوء إسرائيلي غريب ومريب!! كما أننا لا نعرف حتى الآن من يقدم المال والسلاح لحركات مثل داعش، ولكننا نعرف أن الملياردير الأسترالي توبوف صهيوني، وأن كتاب مجلة شارلي إيبدوا صهاينة أيضاً، ومن يقف خلف نشر الإسلامفوبيا بهذا الشكل جميعهم صهاينة أو مسيحيون متعاطفون مع إسرائيل.
يبقى أن نشير لأمر أخير تكتمل معه آخر قطعة في هذه الأحجية، وهو مناشدة نتنياهو اليهود في أوربا للهجرة إلى إسرائيل لأنهم لم يعودوا في مأمن هناك، فالتوسع الإسرائيلي المرتقب وإكمال السيطرة على الضفة الغربية والجولان يتطلب مزيداً من السكان اليهود الغربيين، كما أن إسرائيل قد تبدأ في استكمال مخططها بالتوسع في أماكن أخرى كسيناء أو غيرها فيما لو سنحت الفرصة أمامها عبر استمرار العنف الطائفي وتفكك دول أخرى، أو عبر معاهدة للسلام تتوسع إسرائيل بموجبها للسيطرة على المنطقة اقتصادياً وسياسياً بأموال الشركات العالمية التي يملكها صهاينة متحمسون لدعم حلم إسرائيل الكبرى.
وقد نشرت صحيفة الإيكونومست البريطانية مقالاً عن انتشار ما يسمى بالعداء للسامية بشكل كبير جداً في أوربا مما يذكر بأجواء ما قبل الحرب العالمية الثانية، وقد وجدت المجلة، وهذا أمر ليس بغريب، عوامل مشتركة كثيرة بين الإسلامفوبيا والعداء للسامية والكراهية للمهاجرين في أوربا خاصة في فرنسا وبريطانيا. واليهود لم ينسوا قط ما حصل لهم قبل الحرب العالمية الثانية في ألمانيا أو ما حصل لهم في إسبانيا في عام 1490م. وهم على خلاف المسلمين لا يثقون بالرجل الأبيض الأوربي وتساورهم دائماً شكوك حول سلامتهم في أوربا.
وعليه فعلينا أن نتوقع سعياً حثيثًا من إسرائيل لتوسيع وتيرة الهجرة اليهودية لفلسطين، وقد نشهد قريباً أعمال عنف مدوية ضد اليهود في أوربا وسيكون منفذوها إما مسلمين متطرفين يستدرجون لها، أو عناصر من اليمين الأوربي المتطرف يستخدمون للهدف ذاته. ومن يقرأ التاريخ جيداً يعرف أن إسرائيل قبل وأثناء بدايات إنشائها لجأت لحرق، وقتل، وتفجير أماكن إقامة اليهود العرب في مصر والعراق واليمن لدفعهم للهجرة إلى إسرائيل. وقد اعترفت إسرائيل بذلك صراحة فيما بعد وعرف ذلك بفضيحة «لافون».
ولذا فعلينا أن نتوقع بعد زوال داعش من خارطة العراق وسوريا أن تتقسم هذه الدول وتتشظى إلى دويلات صغيرة مرتقبة: دولة كردية في شمال العراق وسوريا، ودولة ميلشيات شيعية في جنوب العراق، ودولة علوية في الساحل واللاذقية، وزيدية في جزء من اليمن، وقد تعلن هذه الدويلات ولاءها التام لإسرائيل بسبب كراهيتهم للعرب. كما ستحظى إسرائيل بدعم المسيحيين واليزيديين وغيرهم من الأقليات التي غزتها داعش ودمرتها. بينما سيساق العرب السنة تدريجياً للتقلص والتشرذم بحيث تتم السيطرة عليهم عسكرياً واقتصادياً، ويتم ابتزازهم دائماً بتهم ممارسة الإرهاب. قد يرى البعض هذه الرؤية على أنها شاطحة بعض الشيء ولكن الأيام حبلى بأحداث قد تتجاوزها فيما لو استمر العرب متشرذمين. حمانا الله وإياكم من شرور أعدائنا.