د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
تجمع البشر سمات كثيرة مشتركة تشكل القواسم المشتركة لإنسانيتهم. وهذه القواسم تشترك فيها كافة الأعراق والأجناس البشرية مهما اختلفت مواقعها الجغرافية، تواريخها، أو سماتها العرقية. فطبيعة البشر واحدة وتركيبتهم الفسيولوجية تختلف ظاهرياً فقط
من حيث تلك السمات الجسدية التي تتأثر بالتطور الاجتماعي أو المناخ الجغرافي كلون البشرة، أو طبيعة الشعر، أو بعض قسمات الوجه. أما من حيث التركيب الفسيولوجي الأساسي فهو واحد: تركيبة الدماغ ووزنه ووظائفه، نسبة الرأس للجسد، طريقة هضم الطعام، تركيبة وشكل جهازهم العصبي، الاحساس بالألم، والتعلق بالأمل الخ. جميعها صفات كونية إنسانية مشتركة للبشر جميعا.
وأدى هذا التطابق في تركيب الإنسان بكافة أعراقه وطوائفه لظهور قواسم ثقافية مشتركة بين كافة الأعراق والحضارات. فالإنسان يتأقلم بشكل آلي مع محيط بشري مختلف جديد لو ولد ونشأ فيه. وهذا هو مصدر عالمية الإنسانية.
غير أن للبشر أيضاً اختلافات ثقافية، ومعتقدات، وأعراف فرضها تطورهم التاريخي وتفاعلهم مع بيئتهم، وحاجاتهم الخاصة لتنظيم مجتمعاتهم، وتشكل هذه في مجملها ما يسمى بالخصوصية الثقافية، وهي خصوصية قد تميز ثقافة مجتمع ما لكنها لا يمكنها أن تخرج عن طور الطبيعة العامة لإنسانيته. فثقافة الإنسان مهما اغرقت في خصوصيتها لا يمكن أن تخرج عن نطاق طبيعته العامة. ولذا ففهم مجتمع آخر مهما كان مختلفا قد يكون صعبًا لكنه دائماً ممكن.
هذا عندما نتناول الخصوصية الثقافية و العوامل الإنسانية في جانبها العلمي، أما من حيث الجوانب الأخرى السياسية والإيديولوجية فأمرها مختلف. فما عزز الخصوصيات الثقافية هو ظهور الكيانات السياسية والتجمعات الإيديولوجية على مدى التاريخ البشري وخاصة في العصر الحديث نسبياً من تاريخ الإنسان، وظهور وسائل الاستقرار كالزراعة، وتملك الأرض، والانتاج و ما تبعه من محاولات للاحتكار حيث شيدت الحدود السياسية بين الدول لأسباب اقتصادية وسيادية في المقام الأول. وتلى ذلك حروب متعاقبة لإعادة رسم هذه الحدود بما يتلاءم مع مصالح الكيانات السياسية الأقوى عسكريا واقتصاديا. واستغلت الايديولوجيات القومية، والفلسفات العرقية لتأكيد وتعميق الخصوصيات الثقافية بهدف تهيئة الشعوب للحروب ضد تجمعات بشرية أخرى تجمعها معها عوامل إنسانية مشتركة.
ومن سنن الله في خلقه أن أنزل رسالات سماوية لتؤكد إنسانية الإنسان وعالميتها فاستندت بعض الثقافات إلى الرسالات السماوية، أو إلى فلسفات غنوصية مرتبطة بهذه الرسالات للإجابة على الأسئلة الوجودية الكبرى: طبيعة الوجود، الحياة، الموت، وما بعد الموت وهي أسئلة انسانية طالما شغلت الثقافات المختلفة، ولذا ينظر لها أنها مكون عالمي للثقافة الإنسانية. وبينما استندت الحدود السياسية في السابق إلى خطوط تماس جغرافية وطبيعية بالدرجة الأولى: مرتفعات، بحار، محيطات، انهار إلخ. إلا أن هذه العوامل الطبيعية تركت مكانها تدريجيا لخطوط تماس هي في عمقها ثقافية وذلك بسبب تطور تقنيات النقل والتواصل بشكل متسارع مما مكّن من تهميش وتجاوز العوائق الجغرافية، فبدأ العالم يصغر جغرافيا حتى أصبح كما يقال قرية واحدة. فتمت إعادة صياغة العلاقات الثقافية الإنسانية وفق المعطيات الحضارية الجديدة. وأدى التفاعل الثقافي بين الشعوب إلى ظهور ثقافات وعادات عابرة للحدود لها سمات ثقافية معينة مشتركة نظر لها على أنها إنسانية عامة وليست قومية خاصة، وعلى أنها تستند إلى طبيعة الإنسان وإرثه العالمي الثقافي وعلى أنها تتجاوز الخصوصيات الثقافية. ومن مفارقات التاريخ الإنساني أن ظهور الثقافة الإنسانية المعولمة أدى إلى ردود فعل مضادة لدى بعض الثقافات فدفعها لأن تتمترس خلف خصوصياتها الثقافية والعودة لجذورها التاريخية التي قد تنتمي لعصر ما قبل التكنولوجيا.
كما أن بعض الباحثين نظر لمحاولات إيجاد ثقافات إنسانية مشتركة «عالمية» على أنه في عمقه محاولة لتعميم الثقافة الاستهلاكية للدول المؤثرة في العالم التي تمتلك وسائل إعلام ضخمة أيضا تمكنها من نشر ثقافتها. وحتم وجود القوالب الثقافية الدولية المعولمة تسهيل عولمة التسويق الاقتصادي لوسائل إنتاج ضخمة في أسواق عابرة للحدود. وصاحبت المنتجات الاقتصادية قيم أخلاقية قد لا تناسب مواصفاتها مع بعض الثقافات المحلية، لكنه يتم فرضها عليها عبر وسائل دعاية وإعلام لا قبل لها بمقاومتها. وهذا لم يكن وليد يوم وليلة بل وفق تطور اقتصادي تاريخي مدروس ومنظم سبقه تسويق ثقافات الدول المنتجة على أنها ثقافات كونية. وقد أدى ذلك إلى اندثار ثقافات شعوب صغيرة اضطرت للاندماج الثقافي الكامل في الثقافة الرأسمالية الحديثة.
غير أن الثقافات الكبرى التي تستند لعمق تاريخي بعيد وإرث بشري واسع استطاعت الصمود واستمرت في المقاومة، ولكنها لم تستطع وقف الزحف الدائم للثقافة الرأسمالية الاستهلاكية التي هي في عمقها ثقافة غربية غريبة تستند إلى عمق التاريخ الأوربي، فأدى ذلك لظهور كيانات ثقافية هجينة تتعايش فيها الثقافة الوافدة بشكل تواجد غير مريح مع الثقافة المحلية، وحصل هذا في اليابان، والصين، والدول الإسلامية. فلا غرابة إذاً أن يكون هناك صراع خفي في هذه الثقافات بين ما هو أصيل لديها وما هو وافد عليها. وبما أن هذه الثقافات لا تملك وسائل العيش منفردة في عالم يتداخل ويتفاعل، لذا اتخذت ردود أفعالها أشكالاً متعددة تراوحت بين القبول الكامل لبعض الجوانب والرفض التام للبعض الآخر، واتخذت بعض ردود الأفعال شكلاً عنيفًا أحياناً. فالعالم لم يتمكن بعد من تطوير قوالب حضارية إنسانية منصفة لجميع الشعوب بخصوصياتها الثقافية المختلفة، لكنه نجح في تطوير قوالب سياسية واقتصادية فرضت نفسها على شكل اتفاقيات ومواثيق دولية يراها البعض غير منصفة في حق الشعوب الأضعف.
وزبدة القول هي أن كثيراً من الدول الصغيرة أو تلك التي لا تمتلك القوة الكافية أو الفهم العميق للدفاع عن ثقافتها تجد نفسها في حالة دفاع دائم عن وجودها التاريخي وخصوصيتها الثقافية أمام هذا المد العالمي الداهم الذي يزداد قوة يوماً بعد يوم. وهذا ما قادها في بعض الأحيان لاتخاذ مواقف دفاعية تخلت عنها فيما بعد، وكان لها آثار عكسية تسببت في دفعها إلى مواقف أضعف من سابقتها. بينما أخذ هذا التفاعل في ثقافات أخرى شكل الصراع الدائم بسبب عمقها التاريخي كثقافتنا الإسلامية، لذا فالأهم بالنسبة لنا هو كيفية تعاملنا نحن مع هذا الوضع الثقافي الهجين فنحن بلا شك أكبر مستهلك كبير للمنتجات الرأسمالية وللقيم الأخلاقية التي تحملها لضعف مشاركتنا في الانتاج الرأسمالي العالمي، ولذا لا غرابة في ألا نكون مستعدين ثقافيا لها وألا نمتلك الوسائل الناجعة للتعامل معها، ولذا اعتقدنا أن الاحتماء بأكثر القيم محافظة لدينا قد يكون خط دفاع الأنسب لنا، ولا زلنا نخشى الانخراط في الثقافة المعولمة من حولنا، ولكن إلى متى؟.
فنحن وللأسف لم نشخص علاقتنا بالقيم الإنسانية المعولمة بالشكل المطلوب واكتفينا بردود فعل هنا وهناك، وبمحاولات يائسة لاستدراج الغرب المهيمن، الذي أطلقنا عليه مجازاً وصف «الآخر»، في حوارات ثقافية لم تتجاوز جدران المباني التي عقدت فيها. والسبب في ذلك أننا لم نستبق ذلك بتعميق الثقافة الحوارية الداخلية بما يؤهلنا إلى تحديد هوية عصرية ذات ملامح واضحة، ونظرنا للحوار الداخلي والحوار الخارجي على أنهما منفصلان عن بعضهما، وتجاهلنا ضرورة تشخيص واقعنا الثقافي الداخلي كشرط أساسي لتحديد موقعنا الثقافي من الثقافة الإنسانية العالمية. وما زالت مواقفنا من الثقافة المعولمة التي تفد لنا تتراوح في معظمها بين الرفض المطلق أو القبول الكلي، وهذا هو المصدر الأساس للتجاذب والاستقطاب الذي نشهده في مجتمعنا. فالتعامل مع معطيات العولمة الثقافية لا يكون بالعودة للخلف والرفض التلقائي ولا يكون بالاحتضان التام لها، والوصول للمعادلة الصحيحة في هذا الشأن أصعب مما يتصور البعض منا، وليس له قوالب جاهزة لنعممها فقط، ويتطلب تخطيط محكم وعمل دؤوب، وقرارات حاسمة حتى نجعل تواجدنا العالمي أكثر فائدة وراحة لنا. فلدينا في ثقافتنا معطيات ذات طابع إنساني رائع لكننا فشلنا في إدراجها ضمن سياق الثقافة العالمية، وأبرزنا فقط تلك التي زادت الهوة بيننا وبينها. والله من وراء القصد.