د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
التعليم وتطويره هاجس لا ينقطع لمعظم الأمم في معظم العصور وعلى مر جميع العصور، فلا حدود للطموح في العلم. ولا يستثنى من هذه الظاهرة الدول التي نغبطها على تطور نظمها التعليمية ونتطلع لأن نكون مثلها.
فكلما تطور العلم تفتحت آفاق جديدة فيه وحطمت الحدود المعرفية السابقة له واتضحت ضرورات مستجدة لتطوير جديد. فلا أمة سابقة أو حاضرة تستطيع مجرد الادعاء بأنها تتملك لوحدها ناصية البحث والعلم. هذا باستثناء بعض التقنيات التي استطاعت بعض الدول تطويرها لتوفر ظروف موضوعية معينة، فاتجهت لفرض احتكار عالمي عليها بما يسمى ببراءات الاختراع. ويعترض كثير من العلماء على مفهوم براءات الاختراع على أنها احتكار غير مبرر لعلم إنساني لأنه لا علم ينشأ من الصفر ولا توجد أمة لم تتأثر وتستفيد من إنجازات الأمم السابقة حتى في التوصل لبراءات الاختراع التي تسعى لاحتكارها.
واقع الدول الاقتصادي والسياسي وصيرورتها التاريخية هي التي تحدد سياساتها التعليمية وموقفها من العلم وأولويته في خططها، والأهداف التي ترغب في تحقيقها. وهذا يفضي لتداخل كبير ومعقد بين الإيديولجيا والتعليم. وإذا عرفنا أن سبق لعلماء مؤثرين في مسيرة العلم الطبيعي برمته أن اصطدموا بأيديولوجيات مجتمعاتهم التي لم تتقبل بداية اكتشافاتهم العلمية المهمة. فعالم مثل قاليليو عالم الفيزيزياء الإيطالي الأشهر الذي غير توجه العلم الطبيعي بإثباته حقيقة دوران الأرض حول الشمس وليس العكس كما كان يعتقد، أحرق بعد سلسلة من المحاكمات ذات الطابع الإيديولوجي لأن نمط التفكير الإيديولوجي السائد آنذك لم يستطيع تخيل أو تقبل مثل هذه الحقيقة الجديدة. ولذلك لا غرابة في أن العلم في بعض الأحيان قد تعوقه بعض المعوقات الإيديلوجية والاجتماعية والمسلمات شبه العلمية التي تجزم الأغلبية بثباتها ولا تستطيع تقبل سواها وترفض تغييرها. وهذه ليست حادثة تاريخية وحيدة ومنفردة فهناك مثلها وقائع تاريخية علمية كثيرة مما يوحي بأن الطريق إلى علم صحيح أو فلنقل إلى التعليم الصحيح لم يك قط طريقاً مفروشاً بالورد وإنما تطلب شجاعة فكرية وانفتاحاً اجتماعياً تجاه تغير بعض المسلمات الخاطئة.
وهناك بلا شك جدل كبير مستمر أيضا حول تحديد المفهوم المرجعي لمصطلح «علم»، فالبشر تتدواله وتفهم منه أشياء كثيرة. مما أدى لتطور مجال علم مستقل يعنى بتاريخ العلم ذاته. وفلسفة خاصة تسمى «فلسفة العلم» مجالها محاولة تعريفه وتحديد اشتراطاته. ورغم ذلك ما زالت هناك أسئلة حائرة مثار جدل في إمكانية اعتبار مراحل ما سمي بمراحل «السحر» والشعوذة ضمن بداية إرهاصات العلم أومرحلة أولية بدائية له؟ وهل يمكن إطلاق وصف العالم على بعض الاكتشافات الحضارية التي اعتمدت الخبرة والتجربة فقط ولم تصل لمرحلة الشرح والتفسير؟ والجدل قائم أيضاً حول الفروق بين ما يسمى «بالعلوم الإنسانية» و»العلوم الطبيعية»، وكذلك حول التداخل والخلط الكبير بينهما الذي أحدثته التقنيات الرقمية، والمنطق الرياضي. وتصر بعض الثقافات على الاحتفاظ بمفهومها الخاص بها للعلم وفيمن يمكن إطلاق وصف «علماء» عليهم. فنظرة المجتمع لا تتجزأ من نظرته للعالم والكون من حوله، وبناء على هذه النظرة يسعى لتطوير نظمه التعليمية.
ويخلط البعض خلطاً كبيراً بين العلم والتقنية وينظر للتقدم التقني على أنه تقدم علمي، إلا أنه يمكن التفريق بين المفهومين، فهناك دولاً تملك الكثير من العلم كالهند والبرازيل مثلاً لكنهما لا تملكان الإمكانيات الاقتصادية التقنية، وهناك دول كالصين تملك إمكانيات تقنية كبيرة تفوق إمكانياتها العلمية، فالإمكانيات التقنية تعتمد على أمور كثيرة أخرى كالأسواق، والأيدي العاملة، وطبيعة الاستثمار الاقتصادي. وقد أدركت بعض الدول مبكراً أنها لا يمكن أن تتفوق في كافة جوانب التقنية فركزت على جوانب محددة منها ونجحت في مسعاها. فسنغافورة وتايوان مثلاً ركزتا على تقنيات الحواسيب الآلية، بينما ركزت إيران اهتمامها على تقنية صناعة السلاح والصواريخ وأجهزة التخصيب المعتمدة على الطرد المركزي وحققت نجاحات في هذا المجال. وبينما تتفوق ألمانيا في الصناعات الثقيلة تتفوق سويسرا في صناعة الأدوية. فالتقنية بطبيعة الحال تحتاج العلم لكنها مع ذلك تحتاج للتنظيم والاستثمار ودراسات الجدوى وتوفر الأسواق. وهذا أمر غير جديد، فارتباط التقنية بالعلم بدأ مع بدايات ظهور ما سمي بالثورة الصناعية التي ربطت العلم بالإنتاج الصناعي الآلي، واشترطت قبل ذلك تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية من أنماط الإنتاج الزراعي الإقطاعي إلى الاستثمار الصناعي الرأسمالي. فالتطور العلمي وجد قبل الثورة الصناعية بوقت طويل، وكان الاشتغال بالعلم ترفاً يعتمد على حب الاستطلاع ويقتصر على الطبقات المرفهة فقط. وعرف عن علماء التنوير أنهم كانوا علماء في كافة المجالات لأن الهدف من العلم حينئذ كان المفاخرة في صالونات الأثرياء وبلاطات الأمراء.
ولذا قد يجدر بنا لتطوير التعليم لدينا أن نسعى لتطوير التعليم بأسلوب علمي، وأن ننطلق من مفاهيم علمية حديثة للتربية والتعليم بعيداً عن المتاهات الإيديولوجية. وبناء على ذلك يمكن تحديد الإمكانيات والأهداف والسبل للوصول لهذه الأهداف. وكلما كانت الأهداف واضحة وعلمية وبعيدة عن العبارات الإنشائية والخطابية كلما أمكن تطوير وتركيز أساليب للتعليم للوصول لهذه الأهداف. فالأهداف العلمية الواضحة يمكن تقويم مدى تحققها وتطوير ومراجعة الاستراتيجيات اللازمة لذلك.
وقد يرتبط تحديد أهداف التعليم لدينا بنظرتنا لموقعنا في هذا العالم الذي يزداد تقارباً وتنافساً،
وعلى ضوء ذلك تحديد العلوم التي تشكل أولوية بالنسبة لنا ولاستدامة تحقيقنا منزلة كريمة في العالم من حولنا على ضوء إمكانياتنا واحتياجاتنا المسقبلية. فمن المستحيل أن نتفوق في كل مجال وعلى كل الدول كما نحاول عبثاً أن نحققه حالياً، وما مبالغتنا أحياناً في تضخيم إنجازاتنا العلمية في مجالات متباعدة ومشتتة إلا تعبير دفين عن آمال دفينة لم نستطع تحقيقها على مستوى الواقع. فنحن نحاول أحيانا أن نقنع أنفسنا بتحقيق أهداف علمية وتنموية هي بحد ذاتها أهداف غير محددة وغير واضحة، ونحن لهذا السبب وأسباب أخرى نضيع موراد مادية، وبشرية، وزمنية لا تعوض مستقبلاً. وتحسين التعليم لا يكون بتغيير المسؤولين عنه فقط بل بتغيير النظرة العامة له، والفلسفة الكامنة خلفه، وأساليب وآليات اتخاذ القرار فيه، فلا يمكن تطوير التعليم بشكل غير علمي!!!
أما التطور التقني والاقتصادي، الذي طالما القينا باللائمة فيه على الجامعات، فهو مسؤولة أولى للتخطيط الاقتصادي والاستثماري الذي منه ينطلق توجيه وتنظيم الاستثمارات. فشركات عالمية كبرى كسامسونق، وسوني، وأبل، و مرسيدس، وبوينق لديها مراكز أبحاث خاصة بها تتركز حول تطوير تقنياتها المحددة، وقد تتعاون مع الجامعات ولكنها لا تعتمد عليها. وأخيراً أدركت شركات سعودية كبرى هذا المفهوم، فأقامت سابك مراكز أبحاث خاصة بها في الداخل والخارج، واشترت شركة ذات طابع بحثي متقدم في الخارج. بينما دفعت أرامكو باتجاه إقامة جامعة بحثية الطابع هي جامعة الملك عبدالله. وهاتان خطوتان مهمتان فرضتهما التجربة العملية ومنطق المنافسة في الأسواق، إلا أنه وللأسف لم يعلن عن أي تقييم علمي لهما ربما خشية من الحكم القاسي المبكر عليهما. ولو أدركنا أن الصين فقدت 600 مليار دولار على أبحاث لم تحقق نتائج لعرفنا ضرورة أن تتسم جهات البحث والتطوير لدينا بالشفافية المطلقة دون خوف وتردد. وبدون اتباع الأساليب العلمية، واعتماد الشفافية والصراحة المطلقة وقد نفقد كثيراً من الموارد دونما تطوير يذكر.