د.عبد الرحمن الحبيب
الخطاب الشامل الذي ألقاه الملك سلمان الثلاثاء الماضي رسم الخطوط العريضة لسياسة الدولة على المستوى الداخلي والخارجي. داخلياً ظهرت الأولوية للتنمية والأمن مع التأكيد على الابتعاد عما يفرق أفراد المجتمع. وعلى نفس الاتجاه التوفيقي، أظهر الخطاب في السياسة الخارجية ميله للتهدئة وتنقية الأجواء..
بداية الخطاب أكدت على المواصلة بالتمسك بالثوابت التي قامت عليها المملكة، وهي العقيدة الإسلامية ووحدة البلاد وتثبيت أمنها. كما أوضح الخطاب السمة اللازمة للدولة وهي التطوير والتحديث. ظهر هذان المصطلحان (التطوير والتحديث) بهدوء يوحي بالبراجماتية (العملياتية) للدولة في المرحلة الحالية دون استخدام الشعارات الضخمة التي ربما أثارت الجدل النظري أكثر مما يمكن تلمسه في أرض الواقع.
إذا انتقلنا من الثوابت إلى المتغيرات أو الجديد، وحاولنا أن نستشرف السياسة الجديدة للملك سلمان من خطابه؛ سنجد أن التنمية نالت الحيز الأكبر. هذا يعني أن التنمية لن تكون مهمة فقط، بل أول الاهتمامات؛ فكل خطابات قادة الدول تشتمل على التنمية لكن ليس كلها تعطيها أول الأولويات. فإذا كانت الاستراتيجية بتبسيط مقتضب هي فنّ ترتيب الأولويات، فهنا يظهر أن التنمية نالت المقام الأول.
أولوية التنمية نجدها في تأكيدات خطاب الملك على النمو والبناء والنماء والاقتصاد الشامل المتوازن بطريقة عملية مباشرة؛ إذ حدد الخطاب ركائز هذه التنمية كتعدد مصادر الدخل، وزيادة فرص العمل، ودعم القطاع الصناعي والخدمي، وتشجيع المؤسسات المتوسطة والصغيرة. وهذه الأخيرة مؤشر مهم للرؤية الجديدة للملك سلمان في دعم صغار المستثمرين كإحدى ركائز التنمية، لم تكن تطرح في السابق.
ومن الآليات الداعمة للتنمية ما وجه خطاب الملك بمراجعة الأنظمة الرقابية لتعزيز دورها والارتقاء بأدائها للمساهمة في القضاء على الفساد وحفظ المال العام وضمان محاسبة المقصرين. كذلك التوجيه بتطوير أداء الخدمات الحكومية خاصة الخدمات الصحية بحيث تكون في متناول الجميع. أكد الخطاب أيضاً على وضع حلول عملية عاجلة لمشكلة الإسكان بما يكفل توفير السكن الملائم للمواطن.
هذه التأكيدات تأتي في سياق لغة عملية أكثر منها بلاغية التي تتسم بها كثير من خطابات قادة الدول بطبيعتها اللغوية الشاملة. الخطاب هنا يتكلم بلغة مباشرة للعمل أكثر من الإرشادات البلاغية العامة. لذا رأينا بعد يومين من الخطاب تغييراً لوزير الإسكان، فعبارة «حلول عملية عاجلة» للإسكان لم تكن بلاغة إرشادية عامة بل بداية لفعل ملموس.
التعليم أيضاً تم التأكيد عليه باعتبار الدارسين في الداخل والخارج هم بناة المستقبل، مما يعطي مؤشراً واضحاً على استمرار الدولة في دعمها السخي للتعليم العام والعالي، وأنه لن يتعرض للتقليص بل للتوجيه مثلما رأينا بإيقاف ابتعاث التعليم العالي للدول العربية نتيجة ضعف مخرجاتها.
كما أشار الخطاب إلى رجال الأعمال باعتبارهم شركاء في التنمية، وعليهم واجب الإسهام بمبادرات واضحة في مجالات التوظيف والخدمات الاجتماعية. هنا تجدر الإشارة إلى أن نمط دولة الرفاه بالسعودية يتضمن خلوها من الضرائب، فهناك مؤسسات وشركات وبنوك تربح المليارات ولا تقدم شيئاً يذكر للمواطنين أو لخزينة الدولة عدا الزكاة ومبادراتها الخيرية القليلة. وهذا يذكرنا بما قاله سمو ولي العهد الأمير مقرن قبل شهور عن البنوك: «أنا أسميها بالمنشار داخل يأكل طالع يأكل، وهي مقلّة في أشياء كثيرة وعطاؤها قليل مقابل ما تستفيده من المواطنين والدولة». ألا يتطلب ذلك مراجعة بإلزامها بالمساهمة الإجبارية نظاماً؟ يبقى السؤال مفتوحاً، فخطاب الملك ذكر أنها «واجب» وذكر أنها «مبادرات»..
وفي التأكيد على سياسته التنموية القادمة أبدى الملك في خطابه تفاؤلاً بالقادم من إنجازات لتعزيز الاقتصاد والارتقاء بمسيرة البناء والنماء، وتجنيب المملكة تداعيات هبوط أسعار النفط مع الاستمرار في عمليات استكشاف البترول والغاز والثروات الطبيعية في المملكة. تلك رسالة طمأنة لأسواق الطاقة العالمية من جهة، وللمواطنين من جهة أخرى.
إذا انتقلنا إلى السياسة الخارجية، أوضح خطاب الملك ثوابت المملكة في مواقفها على المستوى العربي والإسلامي والعالمي؛ موضحاً أنها سائرة إلى تحقيق التضامن العربي والإسلامي بتنقية الأجواء وتوحيد الصفوف لمواجهة المخاطر والتحديات المحدقة بهما. كما أوضح الملك سلمان أن المملكة جزء من العالم تشترك معه في المسؤولية بوضع الحلول لقضاياه والتعاون مع الدول في مكافحة الإرهاب.
هذا يوضح ما قام به الملك سلمان وما سيقوم به من أدوار مهمة في تنقية الأجواء العربية والإسلامية، ونحن نلاحظ الحضور المكثف لقادة الدول الذين يتوافدون إلى المملكة ويتباحثون مع قادتها. يبدو هنا أن السعودية ستمارس سياسة إقليمية هادئة لتهدئة الأوضاع المحتقنة.
من كل ما تقدم يظهر أن سياسة الدولة ستعطي الأولوية لمزيد من التنمية بطريقة عملية مباشرة أكثر من العناوين الضخمة المثيرة للجدل لهذا التيار أو ذاك، وعدم الدخول في خطابات سجالية. من هنا تأتي إحدى أهم سمات التغييرات الوزارية، حيث تم ضخ دماء شابة لمجلس الوزراء، إضافة إلى أن سبعة من الوزراء وكبار المسؤولين المعينين قدموا من القطاع الخاص، إذ الفاعلية والإنتاج تأتي أولاً. هذا العدد نادر في بيروقراطية الدول الحديثة، مما يشكل انطباعاً بأن الملك سلمان سيكون لديه موقف عملي صارم من ثقل بيروقراطية الأداء الحكومي.
فمن سمات الأوامر الملكية الأخيرة أنها تجاوزت الزمن البيروقراطي وإجراءاته الطويلة، فهي قرارات عملية سريعة جداً مقارنة بالإجراء البيروقراطي المعتاد للقطاع العام في السعودية وفي كافة الدول. من المرجح أن يبث ذلك حيوية جديدة في الحكومة السعودية التي ترهلت بعض مؤسساتها بالثقل البيروقراطي.. حيوية مرشحة لانطلاقة نوعية في فاعلية الأداء الحكومي بشكل أكثر عملية. لكن ذلك أيضاً يعني أن الوزراء الجدد خاصة أولئك الذين قدموا من القطاع الخاص أمامهم تحديات صعبة في استيعاب البيروقراطية واحتوائها بطريقة عملية، عبر تصحيح مسار إجراءاتها اللازمة للأداء الإداري كوسيلة وليست كغاية كما يمارسها عتاة البيروقراطيين..
يقول الكاتب الكندي لورانس بيتر: «البيروقراطية تدافع عن وضع كانت عليه الأمور في زمن مضى بوقت فَقَدَ هذا الوضع مكانته». اللغة العملية لخطاب الملك تعني أنها معنية بالوضع الراهن، ويبدو أن السياسة الجديدة للدولة ستُخضِع البيروقراطية للعملياتية، ولن تلتفت كثيراً للسجالات الخطابية التي يزخر بها الإعلام الحالي.. التحدي كبير فلطالما انتصرت البيروقراطية، ولطالما نجح التأجيج الإعلامي..