د.عبد الرحمن الحبيب
بين من يتوقع انحدار سعر البرميل إلى عشرة دولارات وذاك الذي يتعشم بلوغه مائة دولار قصص وحكايات.. أوهام وحقائق.. اقتصاد وسياسة.. ولأن السعودية يمكنها تحمل هبوط أسعار النفط بسبب وضعها المتين أصبحت متهمة من البعض! أو كما يقول الشاعر:
إذا محاسني اللاتي أدل بها
كانت عيوبي فقل لي كيف أعتذر؟
مطلوب من السعودية أن تضحي بجزء من حصتها بينما يزدهر وضع الآخرين، إذ تقوم كل من البرازيل وروسيا بضخ النفط بمستويات قياسية، بينما تناضل دول الأوبك للحفاظ على حصتها في السوق من خلال خفض أسعار المبيعات إلى آسيا. فهناك وفرة في المعروض في السوق، كما أن صهاريج التخزين ممتلئة (بلومبرج).
اعتاد المراقبون أن تتدخل أوبك لتحقيق الاستقرار في الأسعار من خلال خفض إنتاجها، مما خلق وهماً كبيراً بأن الأمر لا بد أن يكون على هذا النحو دائماً. وتركزت الأنظار على السعودية التي لم تخفض إنتاجها، فظن بعضهم أن لديها أجندة سياسية أو مؤامرة أو تخفي شيئاً ما.. لكن ببساطة اقتصادية، لو أن أوبك خفضت إنتاجها النفطي فلن يرتفع سعره بسبب الفائض الضخم خارج الأوبك، بل ستخسر دول أوبك جزءاً من حصتها بالسوق العالمي.
لا يزيل الأوهام مثل الحقائق المتفق عليها من الجميع. لنبدأ بالحقيقة الأولى والبسيطة: هي أن العرض أكبر من الطلب مما أدى لخفض أسعار النفط. أضف إلى ذلك أن هناك بطئاً في نمو الاقتصاد الصيني، مترادفاً مع تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، خاصة الأوروبي، إضافة إلى صعود الدولار الأمريكي مما يجعل النفط أغلى سعراً من قيمته الحقيقية فيؤدي إلى مزيد في خفض الطلب على النفط (بي بي سي).
الحقيقة الأخرى هي أن حصة دول أوبك كانت حوالي 50 بالمئة في سبعينات القرن الماضي بينما الآن حصتها تزيد قليلاً عن 30 بالمئة. يعود السبب، جزئياً، إلى منتجي النفط الصخري الأمريكي الذين أغرقوا السوق بما يقرب من أربعة ملايين برميل يومياً عندما بدؤوا من الصفر قبل عشر سنوات. أمريكا أصبحت الدولة الأولى المنتجة للنفط (11.75 مليون برميل يومياً)، يليها روسيا (10.93 مليون برميل)، بينما السعودية تنتج 9.53 مليون برميل (المصدر: وكالة الطاقة الدولية). وحتى وزير النفط السعودي المهندس علي النعيمي صرح قبل أيام بأن المملكة ستصبح ثاني أكبر دولة مصدرة للبترول حسب صحيفة الجزيرة، (لنفرق بين الإنتاج والتصدير).
هاتان الحقيقتان تعنيان أن التدخل أصبح من الماضي، فثمة واقع جديد: «دخلنا مرحلة جديدة في تاريخ سوق النفط، حيث بدأت الآن تعمل مثل سوق أية سلعة غير محتكرة». ذلك ما يقوله ستيوارت إليوت، مساعد مدير التحرير في مؤسسة البيانات المختصة بالطاقة، «بلاتس». المسألة اقتصادية بحتة خاضعة لما تفرضه قوة السوق (العرض والطلب)، فحتى أكثر الدول تضرراً من انخفاض الأسعار وهي فنزويلا تنازلت عن طلبها لخفض الإنتاج لأنها اقتنعت أن النقص سيتم تغطيته من دول خارج الأوبك ومن السوق السوداء. «هناك دورة اقتصادية جديدة في سوق النفط تتسم بأنها سوق مشترين وليس سوق بائعين، المشتري هو الذي يتحكم بالأسعار». حسبما ذكر الخبير النفطي الدكتور محمد سالم الصبان.
إنها دورة النفط: تنخفض الأسعار، يقلّ الإنتاج، يقل العرض، ترتفع الأسعار. وبتفصيل أكثر فإن زيادة أسعار النفط تؤدي إلى زيادة العرض نتيجة التشجيع على زيادة التنقيب ودخول صغار المستثمرين. زيادة العرض عن الطلب ستفضي إلى انخفاض الأسعار، وهذا بدوره سيؤدي بالمنتجين إلى تقليص التنقيب وخفض الإنتاج فيقل المعروض في السوق عن الطلب، فتعود الأسعار من جديد إلى الارتفاع.
كم من الزمن تستغرق هذه الدورة؟ الإجابة عبثية، إنه اقتصاد السوق الحرة. فالتكهن بأسعار النفط أصبح أقرب إلى التخرصات، فثمة العديد من المتغيرات التي تلعب دورها في التأثير في أسعار النفط. حسناً، لنُعِد السؤال بصيغة أخرى: ما المتوقع لهذه الدورة؟ تقول الخبيرة بريندا شافير: «لا تشير العوامل الأساسية إلى وجود تحول. تخزين النفط يرتفع، الطلب على السلع غير النفطية ينخفض، والنمو الاقتصادي في الأسواق ينخفض كذلك». وأضافت: «عند النظر في الصورة الكبيرة، لا نتوقع أن ترتفع الأسعار في ظل هذه الظروف، ولكن أسعار النفط تسير في دورات، وبطبيعة الحال، سوف تعود الأسعار للارتفاع عند نقطة ما».. إجابة غامضة!
أما سيتي جروب فقد خفضت من توقعاتها السنوية لسعر النفط الخام للمرة الثانية لعام 2015، حيث ذكر تقريرها إن الأسعار في نطاق 45 - 55 دولاراً هي أسعار غير مستدامة، وسوف تؤدي إلى «عدم الاستثمار في النفط»، وإلى حدوث انتعاش في الربع الأخير من العام ليصل السعر إلى 75 دولاراً للبرميل. ومن المرجح أن يكون متوسط الأسعار هذا العام حوالي 54 دولاراً للبرميل. ومشابه لهذا التوقع يرى الدكتور الصبان أن الأسعار ستحوم حول 45 دولاراً، وربما تستقر في آخر العام في حدود 60 دولاراً.
هناك التباس شائع بأن الخفض الجاري والمتزايد لعدد الحفارات العاملة في حقول النفط الصخري بأمريكا سيزيد سعر النفط، لكن كما أوضح أكثر من خبير بأن انخفاض عدد منصات الحفر الأمريكية لن يخفض الأسعار لأن الآبار الأكثر إنتاجية مستمرة (شافير). كما أوضح الصبان أن تراجع منصات حفر النفط الصخري لا يعني تراجع حجم الإنتاج بسبب زيادة إنتاجية الحقول القائمة، ذاكراً أن 80 بالمئة من النفط الصخري يكلف أقل من 50 دولاراً. ويضيف بأن التطور التقني أدى إلى انخفاض تكلفة النفط الصخري حتى قاربت تكلفة النفط التقليدي.
ما يؤكد ذلك أن أمريكا أعلنت أنها ستزيد من إنتاج النفط الصخري بمقدار 400 ألف برميل يومياً بدلاً من 800 ألف. إذن، لم يحدث نقص بل الذي حدث هو تباطؤ الزيادة في إنتاج النفط الصخري، وهذا ما يؤدي إلى التباس كبير..
تمارس سياسة النفط السعودية دورها الاقتصادي الطبيعي في السوق الحرة. إذن، «دع النفط يمر، دعه يعمل» حسب المقولة الليبرالية الشهيرة، أو كما قال فيليب ويتاكر، مساعد مدير الطاقة في مجموعة شركات بوستن للاستشارات: «دع الاقتصاديات تلعب دورها..» وكفى الله المؤمنين الاستنتاجات الشريرة..