د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
إن النتاج المسطّح المبستر الذي لا يُحقّق أهدافاً ومنافع للناس غالباً ما يتلاشى ويختفي، وإن لمع هُنيهة من الزمن، وهذه النتيجة مردّها إلى انعدام المسئولية، وغلبة المقياس المُلزم دون الهدف المُلزم؛ ناهيك إن رافق ذلك مخزون معرفيّ ضئيل، وأذرع واهنة لدى المنفذين. كما أن غياب المسئولية والثبات على المبادئ المثلى ثغرات وشقوق عميقة؛ تنضحُ بها أزماتنا في مراقي الحياة، مما يقصُر معه التواصل مع الواقع الحضاري اليوم الذي تجمُل به واقعية الحياة.
وحيث يكون العكس تتنامى العقول والأبصار، ويأفل نورها مع من هم دون ذلك؛ فواقع الحياة لا يحبُ الآفلين الذين يقتحمون مواقع لا قِبل لهم بها، ويستفيدون من هشاشة أنظمة الاستقطاب، فيسبحون في مواقعهم دون أدوات؛ أو وعي بما يزرعون وما يحصدون؛ هل أنضجوه أم تركوه هشيماً تذروه الرياح.
وواقع الحياة لا يحبُ الآفلين الذين يخطّطون دونما رؤية أو منهجية، ويصنعون لمحيطهم سرابيل بالية لا تقيهم الحرّ ولا تقيهم بأسهم.
وواقع الحياة لا يحبُ الآفلين الذين يغيّبون دروباً مضيئة، ليحتفظوا بدروبهم المظلمة.
وواقع الحياة لا يحبُ الآفلين الذين لا يؤمنون بوجود الفضاءات الحرّة التي تتآزر فيها الرؤى، وتمنح تواصلاً عامراً بالمعلومة والرأي والموقف والتفاعل معه.
وحتى لا تكون محصّلتُنا الفكرية باهتة لا تسلم من غمز تبثّهُ الألسن، وتصوّره العيون، وتصمه الآذان حينما لا تستطيع الذاكرة أن تُسمن أو تغني من جوع، ولا يلبث أن يتلاشى النفع وتميع حقيقته، ويغيب ضوؤه، ويصبح موقفاً في حدود الذاكرة التكرارية، ويصيبه عطب ضحالة الفكر، وافتقار سدة الرأي، كما تحكمُه قناعة الشاهد الخارجي الذي دائماً ما يُخاتل المواقف، إن كانت ثابتة وراسخة وإلا فإن العقل لا يحبُ الآفلين.
وأصلُ إلى حقيقة وهي: أن المواقف الثابتة والنتاج المقنع ينتزعها المخلصون من رحم القوة والأمانة لتعبر عن نبض المجتمعات، كما أن أزمة الإقناع بجدوى ما يُصنع وإن حُشدت له الحشود هي أزمة فكر، وليست أزمة عدد ولا عُدّة، وليس من حقنا أن نصِم الأحوال والمواقف بعدم التجلّي وانحسار مستوى القناعة، ولا نستصدر شهادة وفاة لكل بزوغ يحيطه أصحابه بالدوران؛ لأن الأزمة عنوانها المنتجون، وليس المنتجات؛ فالفكر القويم يطوّع الحزم الضوئية
لتكون دائمة الإشراق، مستديمة الوهج؛ وهذا ما يُسمى في الفكر الإداري: التنمية المستدامة.
وعندما يُحدِث الفكر في الأدوات تحويلاً لصالح المنتج تكون هناك ذهنية متفتحة للقناعة والثبات والاستمرارية، وفي كل المواقف المنتجة دائماً ما يتوقف النجاح على تحضير سابق، ودونه هناك فشل.
وفي تلك الدوائر يحيطنا بوح يومي مؤسف عن مراكب مهمة لا يقودها الأحق؛ وعن مفاوز مظلمة لأنها أحيطت برؤية الأدنى والأقل، وعن تقديم للتوافه لأنها قريبة التناول يسيرة التداول، وكم هو مؤلم رؤية البحيرات الساكنة ويخشى أصحابها من يحرك ماءها ليبحث عن مصب وساقية، بينما الحقول المحيطة عطشى.
والحقيقة أن السراب المضلّل يلتهم الأوقات، بينما هناك في الأفق من يتحفز لدقيقة استماع صادقة صافية، لعلّه يرتشف من النهر الذي يسمع به ولا يراه.
ولكن في الجانب الآخر من يسرف في الحديث عن أيامه، ويجعلها تبدو كغزوة من ملاحمنا الكبرى انتصر فيها على ثلة ضعيفة في مضمار سباق غير متكافئ الفرص والعدد والعدة؛ وتكون النتيجة دائماً قدرة عجيبة في بناء الأسوار والحدود الخاصة، وتزداد الغربة رسوخاً عما يريده واقع الإنتاج ويأمله.
والمعادلة واضحة؛ فكلما بعُدت الأفراس القوية عن المضمار ظهرت ملامح الضعف على مجمل السباق، وما يلبث حماس الجمهور أن يبرد ويتلاشى، ويؤجج ضعف النتائج غريزة الافتراس في مواقع أخرى، ولكن لا تلبث تلك النوافذ المزخرفة أن تتلاشى؛ فنردّد: نعم لا نحبُ الآفلين.
بوح أخير؛ يقول كثير عزة:
كما أبرقت يوما عطاشا غمامة
فلما رجوها أقشعت وتجلّتِ