د.فوزية أبو خالد
هل منا من لا يتذكر قصة الطفل الشجاع الذي لم يهرب من أمام موكب الخليفة كما فعل بقية الأطفال. وعندما وجه التساؤل للطفل عن موقفه. أجاب الصغير بعنفوان الكبار بأنه لم يقترف ذنبا ليفر من أمام الخليفة وليست الطريق ضيقة ليوسعها.
وعلى أهمية قيمة الشجاعة الأدبية المستنبطة من هذه القصة فإنها قصة تتعدد معانيها وقيمها الاجتماعية. وأجد أن من معانيها الجوهرية التي قد لا يكون جرى تسليط الضوء عليها بما يكفي هو معنى «الحرية الذاتية» في بعدها الإنساني وبمعناها الفطري الذي يتمتع به ذلك الطفل ليستطيع اتخاذ موقف خال من الخوف أو الرهاب الاجتماعي.. فالإنسان الذي لا يمتلك ملكة الحرية داخليا من الصعب أن يتحلى بالشجاعة الأدبية أو بالشجاعة السياسية.
أذكر هذه القصة في سياق أنه غالبا ما يتم الحديث عن الحرية في عالمنا العربي والإسلامي كمفهوم سياسي محض. بما يؤدي في خضم التأسي على المحددات التي لا تشجع على ممارسة الحرية وإلى إهمال أبعاد أخرى من أبعاد مفهوم الحرية بما قد لا يكون أقل أهمية من البعد السياسي للحرية, بل إن الحرية بمعناها الإنساني الرحب لربما تشكل شرطا مسبقا لوجود أي من أشكال الحرية الأخرى من الحرية السياسية والاقتصادية إلى حرية التفكير والتعبير.
فأي حديث عن حرية سياسية أو حرية فكرية يظل ناقصا ما لم تتوافر الحرية بمعناها الإنساني الواسع والعميق كقوة ذاتية وكممارسة حياتية لأفراد المجتمع العربي والإسلامي وقواه الاجتماعية المختلفة من الأطفال والرجال والنساء إلى المؤسسات الرسمية والأهلية بما لا يقصر مفهوم الحرية على المفهوم السياسي أو يقزمها في قمقم الساسة.
إننا نعتقد أن التقصير في الحديث عن الحرية بالمفهوم الإنساني الواسع والعميق هو أحد الأسباب التي سمحت وتسمح بأن يعتم على سؤال الحرية كمكون ذاتي من مكونات النفس البشرية بأبخرة عوادم السياسة.
وهذا ما سمح بدوره إلى أن تتحول الحرية من مفهوم بسيط يدخل في تكوين كل منا منذ الولادة كطاقة خلاقة داخلية مثله مثل قدرتنا الطبعية على التنفس أو على النطق والمشي إلى مفهوم معقد دونه خرط الرقاب. وإذا كنا كعرب ومسلمين نادرا ما قمنا بتأمل مقولة عمر بن الخطاب رضى الله عنه التاريخية الشهيرة بأن الناس ولدتهم أمهاتهم أحرارا، كإشارة إلى تأصل مكون الحرية كعنصر ذاتي من مكونات الوجدان والعقل والحس البشري للإنسان على الرغم من الاستشهادات الكثيرة بها التي لا تأتي إلا في حدود تقصرها على الوقوف في وجه المصادرات للحرية السياسية فإن بعض المدافعين عن الحرية في العالم قد أضروا بها من حيث أرادوا إحسانا عندما قبلوا إن لم يكونوا قد ساهموا في الطرح الأحادي للحرية بقصرها وقصر مطلبها على مجال النشاط السياسي. وكذلك عندما أغفلوا سؤال الحرية في مجالات النشاطات الإنسانية المتعددة في الحياة العامة والخاصة، من التعليم العام إلى التعليم الجامعي ومن الصحافة والإعلام إلى الكتابة الإبداعية والإنتاج الفني ومن أساليب المعاش إلى حرية الحركة والتعبير والتجمع والتمثيل في بنى اجتماعية أو سياسية مستقلة.
هذا دون أن نعني التهوين أو الاستخفاف بأهمية الحرية السياسية. ودون أن يعني هذا الفصل فصلا تعسفيا بين مجالات مناشط الحريات الحياتية.
وإذا كان أيضا كثيرا ما جرى قراءة قول عنترة بن شداد في الرد على عمه عندما طلب منه الانخراط في الدفاع عن الحمى « العبد لا يحسن الكر والفر بل يحسن الحلب والصر»، قراءة مبصرة رأت أن عنترة بن شداد اشترى حريته بتلك المقولة حيث كان رد عمه عليه «يا عنترة كر وأنت حر» بما أظهر الترابط الجدلي بين الحرية وبين المشاركة الحربية والسياسية بمقياس ذلك الزمان، فإنه نادرا ما يشار إلى طاقة الحرية الذاتية التي كان عنترة بن شداد يمتلك ملكتها كشاعر وكمحارب ليستطيع أن يفاوض على حريته بمثل تلك الجرأة، وبمثل ذلك المنطق المفحم وبمثل سرعة البديهة تلك في اللحظة المناسبة.
فلو أن عنترة كان مستبعدا من الداخل أو لم يكن يتمتع بطاقة من الحرية الذاتية رغم أنه كان لا يزال عبدا بالمفهوم الشائع وقتها لما استطاع أن ينتزع حريته ويغير قدره من عبد إلى إنسان حر بمثل تلك الروح الفروسية.
وهذا يعني أن الإنسان على امتداد العالم يحتاج أن يُفعل ما بداخله من طاقات كامنة واستعداد فطري للحرية كما يحتاج إلى مهارات تمكنه من فتح منجم الحرية الذاتية ليقدم قراءات تحليلية بديلة للتراث المعرفي وللواقع في توسيع أفق النظرة لمسألة الحرية في أبعادها الإنسانية المتعددة.
ولو أردنا ألا نقتصر على سرد وتحليل أمثلة مستقاة من الذاكرة الجمعية لمجتمعات العالم العربي الإسلامي في مسألة الحرية كمفهوم إنساني وليس كمفهوم سياسي وحسب فإن مراحل لاحقة من التاريخ الحضاري الحديث للمجتمعات البشرية تظهر أن هناك تلازما ليس فقط بين شرط الحرية وبين المشاركة السياسية, بل أيضا هناك ما يظهر تلازما بين شرط الحرية وبين شرط العمل والإنتاج سواء الإنتاج المادي أو الإنتاج المعرفي والثقافي. ولا نحتاج هنا بسبب الحيز لأكثر من إشارة يمكن لمن أراد الرجوع فيها إلى مشروع النهضة الغربي ليطلع على تفاصيل ما خلاصته بأن تحول المجتمعات الغربية إلى الإنتاج الصناعي وعمليات استبدال النظام الإقطاعي بالنظام الرأسمالي واستبدال الأنظمة المعرفية القديمة في الغرب بنظام المعرفة العلمية قد كان شديد الارتباط بمسألة الحرية الإنسانية ككل وليس بالحرية السياسية وحسب. في هذا الإطار الإنساني الأوسع لمفهوم الحرية.
هذا مع الحاجة للتوقف التأملي طويلا وإعادة قراءة الحرية بمعناها الفقهي قراءة تحليلية ترد الاعتبار لمعنى الحرية في الإسلام باعتباره شرطا لازما من شروط أهلية الإنسان مثله مثل شرط الرشد والعقل.
تمر بمفاتيحي هذه الأطياف المشرقة عن معنى وشرط الحرية الذاتية لتحرر الفرد والمجتمع والشعوب والأوطان فيما تمر على شاشتي الإلكترونية والتلفزيونية والورقية تلك المشاهد المتخبطة لواقعنا العربي ونحن نمرغ هامة الكرامة العربية في وحول الطين مرة ومرات في حرمة الدم. فيتكشف لنا لحظة بعد أخرى بشكل موجع ومرعب أن ما كان ينقصنا كعرب وكمسلمين ولا يزال، ليس فقط الحرية السياسية بل تجربة الحرية بمعناها الذاتي والموضوعي. كم يا ترى نحتاج لاستعادة تلك الملكة الجسدية والروحية من الحرية التي ضاعت تدريجيا بعد أن ولدنا بها, وكم يا ترى يحتاج عالمنا العربي من السنوات لتعلم دربة الحرية من جديد؟
ولله الأمر من قبل ومن بعد.