محمد أبا الخيل
تحدثت في مقالي السابق عن ضعف في بنائية الاقتصاد السعودي، ساهم في خلق بطالة بين المواطنين؛ إذ يتعذر خلق وظائف جديدة توازي عدد الداخلين الجدد في سوق العمل، في حين أن معظم الوظائف الجديدة تذهب للوافدين؛ لكونها ضعيفة التأهيل وضعيفة الأجور؛ وهو ما يجعلها غير متاحة للمواطنين. وفي هذا المقال سأتحدث عن جانب آخر يساهم بصورة مستدامة في إعاقة توظيف السعوديين، وهو الجانب الاجتماعي الحضاري؛ إذ ذكرت في المقال قبل السابق أن أحد معوقات التوظيف الأمثل للسعوديين هو أن المجتمع السعودي اصطبغ بحالة انتقالية من مجتمع رعوي، سادت فيه مفاهيم وعادات اجتماعية، إلى مجتمع حضاري، يتطلب مفاهيم وعادات مختلفة. هذه المرحلة الانتقالية اختلت فيها المفاهيم الخاصة بالعمل الإنتاجي والعلاقة بين صاحب العمل والعامل، وكذلك العلاقة بين الكفاءة في الإنجاز واحترام الذات والقيمة الاجتماعية للاحترافية المهنية.
المجتمع الرعوي هو مجتمع له سمات سلوكية، تتميز بالاتكالية شبه التامة على تغيرات البيئة المحيطة، والتكيف الذاتي لتلك البيئة دون بذل جهد في تغيير البيئة. فالفرد في المجتمع الرعوي يعيش على رعي المواشي والصيد؛ لذا يعتمد على ما تنبت الأرض من أعشاب وما تمطر السماء من ماء، ويتقي أخطار البيئة بوسائل بسيطة؛ لذا لم يكن العمل المتخصص والمحدد بأطر زمانية ومكانية الذي يتسم بالخبرة والمهارة جزءاً من حياة الرعوي. وليس في حياة الرعوي انضباط مؤسسي يجعله محكوم التصرف ومحدد السلوك ومقيداً بالصلاحيات، بل إن الرعوي ينفر من كل قيد، ويستهجن الانضباط، ويرى الحياة صراعاً من أجل البقاء. والمجتمع السعودي قبل أقل من 50 عاماً كان معظمه مجتمعاً رعوياً، ولم يمضِ على تحول المجتمع عن حياة البادية سوى جيل أو جيلين؛ لذا ما زالت الرعوية تقطن الذهنية السعودية. ومع استيطان معظم البادية في المدن جلب هؤلاء المتمدنون الجدد كثيراً من عاداتهم وسلوكياتهم الرعوية للمدينة، وتأثر بها أهل المدن، بحيث أصبح التجانس يقتضي تبادلاً بين سمات أهل المدن وأهل البادية؛ وهو ما خلق هذا الواقع الذي نعيشه اليوم.
المجتمع السعودي اليوم في معظم المدن بات شبه متجانس وجاهز للانطلاق للمرحلة الثانية من التطور الاجتماعي، والتحول لمجتمع متحضر، يقوم على الإنتاج الفردي والجماعي لتحقيق معيشة كريمة. ولكن هذا الانطلاق بحاجة لمحفزات وموجهات وإمكانيات، وهذا الأمر في غاية الأهمية؛ ويحتاج لتضافر عدد من الجهات الحكومية والأهلية، لمدة طويلة، وربما لعقود من الزمن. ولنا في تجارب الأمم الأخرى عبرة، مثل اليابان، التي تحولت من مجتمع إقطاعي غارق بالخرافات لمجتمع صناعي متميز. وكذلك كوريا الجنوبية من مجتمع زراعي فقير لتصبح عاصمة التقنية في العالم اليوم. هذا التغير الذي ننشده لمجتمعنا لا بد أن يكون مبرمجاً ومدروساً ومحدداً بأهداف واضحة ومستدام الأثر.
تغير المجتمع السعودي لمجتمع متحضر سيجعله مجتمعاً متنافساً ومنتجاً، يهتم بالعمل، ويمجد الإنجاز، ويشجع التميز. عندما يصبح المجتمع كذلك سنرى طالب العمل السعودي يجد في طلب العمل، ويجتهد في تأهيل نفسه ليستحق أفضل الفرص المتاحة، وينافس في كفاءاته وليس في جنسيته، وسنجد العائلة السعودية تتكون من أكثر من عائل، وسيصبح العمل في المؤسسات الرائدة شرفاً، الكل يسعى لنيله، ويصبح الانتماء للمهنة أو الصنعة أو المؤسسة والشركة المرموقة أكثر أهمية من الانتماء لقبيلة أو منطقة.
التغيير الاجتماعي يقتضي نظرة فاحصة لمحركات المجتمع نحو التغيير، الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويقتضي تجنيد القيادات ووجوه المجتمع في كل المجالات استخدام وسائل الإعلام كافة لتعميق الالتزام برؤية موحدة ورسالة خالدة.. فلن نستطيع الاستمرار على حالتنا الريعية واستدرار مواردنا الطبيعية لتحقيق حياة كريمة ومتحضرة ومستدامة.