د.ثريا العريض
مع الأسف ما نعايشه اليوم في كل نشرات الأخبار هو جو عنف شامل، تُستخدم فيه كل الوسائل بما في ذلك أشدها دموية؛ لإثبات مَن هو الطرف الأقوى المستحق للسيطرة وإملاء الرأي والتوجه.
صارت مشاهدة الدماء معتادا يوميا.. ولم يعد التعامل مع ما يثير الرعب في الأحوال الطبيعية ومعتاد انفعالاتها، تعاملا طبيعيا.. بل نسينا أنها تولد كوابيس الخوف للصغار والكبار.
أتساءل كيف يصل أي مجتمع إِنساني إلى هذه الدرجة من التبلد، بحيث يرى نشرات الأخبار ويتصفح تسجيلات الواتساب ومرفقات التغريدات المنهمرة بكل ما يجفّف الدم في العروق، ثم يعيد إيصالها للمزيد من المتابعين.
وهذا لم يبدأ اليوم ولا يحتكره شعب متخلف أو متحضر. صور ما فعله المحتلون في الحروب العالمية الماضية شاهد في كل دولة احتلت حرمتها على ما عانته من تعذيب وآلام. ولا تختلف النازية والفاشية في تعاملها مع ضحاياها المنتقين عن الصهيونية والخوارج. ولعل في البشر أو بعضهم خصلة عدوانية مختبئة تتلذذ بمشاهدة العنف وممارسته تقفز إلى سطح الفعالية حالما تتاح لها فرصة التعبير. كنا نرى أفلام العنف والترعيب تقدم لنا كخيال جامح يجسد شخصيات مريضة تتفاعل بلا وجدان لتدمير العالم، أو تعذيب عدو ما تبرر عداوته مساعي تدميره. فأصبح ما نرى تسجيلا لوقائع فعلية.
ما يحزنني أكثر هو تأثيرها على الأطفال.. وأخشى كتربوية من أن تعرُّض الأطفال لهذه المشاهد يشوه مشاعرهم إن لم تتحجر في مشاهدة التفاصيل المرعبة. وقد يستلذون، نتيجة استثارة خوفهم، تمثيل دور القوي الذي يقوم بتعذيب الضعيف ويقومون به على أرض الواقع، خاصة أن التعذيب يُقدّم على أنه فعل قوة وتنفيذ حكم على أفراد يُتهمون بفعل إجرامي.
أعود بالذاكرة إلى فترة أُغرق المجتمع فيها بتسجيلات الإرعاب والترهيب وضرورة التطهر من جرائم وارتكابات لما لا يذكر الفرد أنه قام بها فعلا، لكنه مطالب بالشعور بالذنب لوجوده المفترض في محيطه. بل هو مسؤول عن منعه ومعاقبة من يظنه يرتكبه ولو في الخفية. وهذا العقاب للآخرين المنتقين أو المتخيلين، هو طريقه الوحيد ليحمي نفسه من الحساب النهائي.
أتذكر التسجيلات والتمثيليات المرعبة التي تعرض لها أطفال في سن الابتدائية بتبرير تعليمهم ألا يضعفوا ويخطئوا، وإلا فهذا ما يرتقبهم من تعذيب قادم لا مراء. جاءني يوما أحد كبار التنفيذيين حيث أعمل ليشكو لي كتربوية من أن طفله يعاني من الكوابيس بسبب ما يعرض عليهم في المدرسة. ولا أدري إن عايش أطفال العصور الوسطى في جاهلية الغرب وسيطرة الكهنوت على العقل مثلها؟
وأرجو أن الجهود القائمة لتصحيح ممارسات الجهاز التعليمي ستمنع هذه الجرائم التربوية. هل لما نراه اليوم من العنف والرعب على حدودنا وتبلد إحساسنا في التجاوب برفضه نتيجة اعتيادنا له؟ أم خوفنا من التعبير عن رفضنا لفكرة التعذيب تحت أي مبرر؟
المثقف شاهد على عصره وليس المبرر لسقطاته.
ولنبدأ بأن نرفض تسخير الأعراف في خدمة ترسيخ العنف.
ولنقل «لا» كي نمنع تثبيت أوضاع لم تعد ضمن المقبول إِنسانيا وإن تقبلتها فئات شاذة لأهداف خاصة بها.
ولنقل «لا» لمن يحاول تعويد أطفالنا والنشء على فقدان الوجدان. التعاطف مع المتألم والشعور بالظلم دون تبريره تحت أي إعادة تصنيف، هو نعمة الوجدان التي لا نود أن نحرم منها أطفالنا في متاهات الاعتياد على معايشة أفعال العنف. لنرِهم تسجيلات تعاطف الحيوان مع الحيوان؛ ليتعلم أن الوجدان هو قيمة إلهية.