عمر إبراهيم الرشيد
لا يختلف اثنان على أن الطفرة التنموية الثانية التي ما زالت المملكة تعايشها جعلت منها ورشة بناء عملاقة، تعد من ضمن الأكبر في العالم، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق، عمقاً واتساعاً وقياساً إلى المخصصات المالية لهذه الورشة العملاقة. ولكل بناء وعمل إنجازات وآثار بناءة، كما له أخطاء وعقبات؛ وتلك هي حال البشر مهما أوتوا من إمكانات، على حسب تطور مجتمع أو بلد وإمكاناته المادية والبشرية، ومدى الوعي والحس ومستويات التعليم والثقافة...
.. وحتى لا أطيل، فإن من أكثر الملفات التي شكلت تحدياً متعاظماً لعجلة التنمية في المملكة هو قطاع المقاولات، وتأثيره على مسألة مؤرقة أخرى كنتيجة لحالته، هي تعثر مشاريع تنموية تمس قطاع الخدمات بالأخص، حتى وصل عدد المتعثر من المشاريع الخدمية إلى أرقام مفزعة باعتراف جهات حكومية عديدة.
حقيقة، أتى تأسيس مجلس للشؤون الاقتصادية والتنمية في توقيت طال انتظاره، لجهة إزالة التكلس البيروقراطي وحلحلة قيود التقليدية الإدارية التي تعيق انطلاق الأجهزة الخدمية ورشاقة حركتها. وظني أن قطاع المقاولات بأمسّ الحاجة إلى التفاتة حازمة من هذا المجلس، بإعادة تنظيمه، والقضاء على عشوائية بعضه، وتشجيع الاندماج بين كياناته، ووضع اليد المنظمة الصارمة على عقود الباطن الممنوحة لغير المؤهلين. إن قطاع المقاولات في المملكة يسيل لعاب كبرى شركات المقاولات العالمية؛ ويتقاطر أربابها كل يوم على الرياض سعياً للحصول على جزء من فرص تُعدُّ بمئات الآلاف، وليس هناك مبالغة في هذا الرقم إن لم يزد عليه؛ فالموازنات ما برحت تتعاظم سنة بعد أخرى حتى فاقت في قطاعات كالتعليم والصحة مثلاً تلك التي في معظم دول أوروبا وآسيا نسبة إلى الميزانية العامة.
وليس بخافٍ على كل متابع أن المملكة بحاجة إلى تلك الشركات الدولية العريقة في قطاع المقاولات، كما هي بحاجة إلى المملكة، بمكانتها بوصفها أكبر اقتصاد في المنطقة، وعضويتها في مجموعة العشرين، واستقرارها السياسي، وبالطبع وتيرة البناء المتصاعدة. وعندما نتحدث عن شركات عالمية لها باعها وخبرتها الدولية عبر العالم فليس فيما نقول إقلال من شأن الكيانات والشركات الوطنية؛ لأني لم أعمم بدءاً، كما أذكر بما قلت عن مسألة الاندماج؛ ما يعني وجود كيانات وشركات مقاولات وطنية ناجحة، تشهد لها إنجازاتها، ويمكنها احتضان ودمج الشركات والمؤسسات الصغيرة علاجاً لعشوائية وتخبط عانت بسببهما قطاعات عريضة في المملكة لسنوات ولا تزال؛ لذا فهذه الشركات الوطنية المتميزة بعد إعادة تنظيم قطاع المقاولات ودمج الضعيف بالقوي - كما قلتُ - تواصل أدوارها التنموية بروح جديدة، وقوة ومتانة أكبر، لكنها قطعاً - وهذا رأي شخصي - لن تكون قادرة بعددها الحالي على تلبية جميع متطلبات ومناقصات الدولة حتى بعد إعادة التنظيم والهيكلة - كما قلتُ -. والأسباب عديدة، لعل أهمها - كما قلتُ - أن ورشة البناء في المملكة هي الأضخم في الشرق الأوسط، إن لم تكن في العالم، إذا استثنينا الصين؛ لذلك فمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية أجدر بمراجعة نظام المناقصات وعقود الإنشاء لتشجيع الشركات وبيوت الخبرة الدولية وإزالة أي معيقات أمامها؛ لتكون جنباً إلى جنب مع الشركات الوطنية بروحها الجديدة آليات بناء على أعلى المعايير الدولية؛ فيكون نوعه العمل ككَمِّه. ويكفي النظر إلى مشاريع تمت في السبعينيات الميلادية ولا تزال شامخة، تردد ما نقوله، وتمت من قِبل كيانات خبيرة عالمية ووطنية كذلك. ويجدر بنا استحضار دخول شركة النفط الوطنية الكبرى عالميا (أرامكو) إلى هذا القطاع بتكليف مباشر من الملك عبد الله - طيب الله ثراه -؛ وذلك للتدليل على أن هذا القطاع لولا أنه مصاب بعلل مزمنة لما تطلب الأمر (فزعة) هذا الكيان النفطي العملاق بخبرته المتراكمة، وروحه العالمية، ومعاييره الدولية الصارمة. وقد كتبتُ هنا من قبل مقترحاً بفكرة إنشاء شركة مقاولات وطنية، تكون ذراعاً لأرامكو وابنة لها؛ حتى تكون بالروح والطباع والتفكير نفسها، على أن تكون شركة مساهمة عامة من الناس وإليهم، وتوكل لها مشاريع البناء والتشييد، وتضع حدًّا للهدر في الموارد والوقت والجهود، وتأتي المشاريع على أعلى المواصفت العالمية. وليست هذه أول مرة أكتب فيها عن قطاع المقاولات؛ إذ سبق أن تناولته أكثر من مرة، لكن التغيير الوزاري الأخير وتكوين مجلس متخصص للشؤون الاقتصادية والتنمية بقيادة وحنكة الملك سلمان - وفقه الله - حتّم إعادة التذكير بواقع هذا القطاع والمأمول له.
والله من وراء القصد.