لم تشهد المملكة توافد قادة وزعماء وشخصيات بارزة في شتى الميادين في تاريخها كما شهدته قبل أيام، للتعزية في الملك عبد الله أسكنه الله جنة عدن، والشد على أيادي خلفه خادم الحرمين الملك سلمان وإخوانه مواساة وتهنئة بطريقة غير مباشرة، لتواصل الاستقرار بالانتقال السلس والمعتاد للحكم .
هذه الجموع الغفيرة من شتى الدول على امتداد العالم والتي تقاطرت على الرياض كانت كأنما هي تقترع على مكانة المملكة ودورها وثقلها السياسي والاقتصادي والديني ليس في المنطقة العربية فحسب، بل على المستوى العالمي. جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق صرح عند زيارته رفقة الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل أيام بأنّ المملكة واحة استقرار وسط محيط مضطرب، وتأتي ميزة تصريحه هذا بالنظر إلى ما شاب العلاقات السعودية الأمريكية من تجاذبات وفتور معروف منذ نشوب الأزمات وما سمي بالربيع العربي وبالأخص في سوريا ومصر، وبالنسبة إلى السياسة الأمريكية المتخبطة في المنطقة عموماً.
الانتقال السلس والهادئ للسلطة والذي عايشه الشعب السعودي دون استغراب بحكم توقعه واعتياده على حنكة أركان الحكم والأسرة الحاكمة منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة، وما رسخه الملك عبد العزيز من تقاليد حكم تستشرف الحكمة السياسية وبُعد النظر ومصلحة البلاد والشعب . لكن هذا الانتقال أدهش المراقبين والمحللين السياسيين وغيرهم في العالم حقيقة، على سلاسته وهدوئه، مع عبور المملكة لهذا التحول في الحكم بكل استقرار واستمرار أوجه الحياة العامة كما هي وكأنّ شيئاً لم يحدث، وهذا ما أعطى رسالة عظيمة الفحوى للعالم كله بثقل المملكة واستقرارها، وردّت على ما يروّجه مرجفون وأعداء في المنطقة وخارجها.
بل إنّ معاهد أبحاث أمريكية يعتمد عليها أصحاب القرار في واشنطن تحدثت عن حراجة الوضع في المملكة داخلياً قبيل رحيل خادم الحرمين الملك عبد الله رحمه الله تعالى، لم تخف دهشتها لسلاسة انتقال الحكم بكل هدوء واستقرار.
تماماً كما أبدت تلك المعاهد ومراكز الأبحاث دهشتها من قوة تأثير السياسة النفطية للمملكة على السوق الدولية، إضافة إلى قوة موقفها وتفرده في دعمها لمصر سياسياً واقتصادياً، كما حدث من قبل مع البحرين بشكل أذهل العالم وصدم إيران الطامعة وأوقفها عند حدودها .
إما تسلُّم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لسدة الحكم، فبالإضافة إلى أنه شريك للراحل في مسيرة الإصلاح الإداري والتنموي، فهو مدرسة في الإدارة التنموية وأصول الحكم، ولا غرابة إذ إنه ترعرع في بيت الحكم ودهاليز السياسة وركن من أركان الحكم لعقود من الزمن.
لذا فإن الشعب يتوقع استمرار مسيرة الإصلاح والبناء والتنمية بشكل نوعي، نظير عراقة رصيد الملك سلمان السياسي والإداري، والبعد الثقافي في شخصيته، كونه قارئاً نهماً ومتابعاً للشأن العام تنمية وثقافة وشؤوناً إنسانية.
وما إعادة تشكيل مجلس الوزراء وإلغاء هيئات ومجالس عليا كانت عبئاً بيروقراطياً إلا أمثلة على ذلك، إضافة إلى إطلاق سجناء الحق العام والتسديد عن المدينين مواطنين ومقيمين في بادرة تحمل حساً إنسانيا ووطنياً غير مستغرب، مع الهبات المالية للموظفين والطلبة رفداً لهم وتعزيزاً لهذه الأجواء العظيمة التي أبرزت التلاحم الوطني بين الأسرة الحاكمة والشعب، وكأنها تجسِّد الحكمة القائلة بأنّ المحن منح إذا وجدت عقولاً حكيمة تعبر بأصحابها البحر المتلاطم إلى بر الأمان، وأنه من الأزمات تولد الفرص.
حفظ الله بلاد الحرمين من كل مكروه، وفرّج كرب من يعانون ويلات الحروب والفتن في باقي بلاد المسلمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.