أول وظيفة حكومية تسلّمتها كانت في وزارة التعليم العالي قبل عشرين عاماً، كانت الوزارة حينها هادئة وبعيدة عن ضجيج الجمهور والمراجعين إلا من مبتعثي الجهات الحكومية الأخرى والتي تقوم الوزارة بدور الإشراف والتنسيق مع الملحقين الثقافيين في الخارج لمتابعتهم مع جهاتهم الحكومية. ذلك كان صلب عمل الوزارة على الرغم من ابتعاث الجامعات السعودية بعض محاضريها ومعيديها في تلك الفترة إلا أن أعدادهم لم تكن كبيرة كما هي اليوم.
وحقيقة إذا قارنا عمل وزارة التعليم العالي في تلك الفترة بعمل باقي الوزارات الخدمية الأخرى، فإن دورها يكاد أن يكون شرفياً في رأيي الشخصي، مع التذكير بأنها عملت ضمن المتاح لها من موارد وتوجه حكومي في حينه، بالنظر إلى أن الدولة كانت للتو خارجة من أزمة الخليج وتبعاتها الاقتصادية، من تباطؤ الاقتصاد المحلي والعالمي وتدني أسعار النفط في ذلك الحين.
وليس بالسر أن توقف الابتعاث الخارجي مطلع الثمانينيات الميلادية ترك آثاره على التنمية الإدارية والاقتصادية وأدى إلى نقص مشهود في الكفاءات العلمية والقيادات الإدارية والموارد البشرية بشكل عام. ولعل من علامات هذا التأثير أن بعض من تولى القيادة في بعض المؤسسات الحكومية يحمل تخصصاً مغايراً تماماً لمجال عمله، والتي كما أشرت ومع أسباب أخرى ليس هنا مجال سردها، هي نتيجة تناقص الكوادر المؤهلة تأهيلاً علمياً من جامعات عالمية متخصصة كما كان الحال مطلع الستينات الميلادية مع انطلاق برنامج الابتعاث إلى مصر ولبنان وأمريكا وأوربا، ما منح البلد أكاديميين أكفاء عادوا فدرسوا في جامعات المملكة ثم انخرط بعضهم في وزارات الدولة وتسنموا قممها أمثال الراحلين عبد العزيز الخويطر، المتفرّد غازي القصيبي، ومحمد أبا الخيل، وأحمد زكي يماني، ومحمد عبده يماني وغيرهم، رحم الله من رحل منهم وعافى من بقي. هذا إلى جانب من استمر في عمله الأكاديمي وبحوثه يعطي من ثمار عقله وتجاربه الأكاديمية والحياتية التي عاشها في الخارج، ومنهم الدكتور ناصر الرشيد الذي أسس معهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول وكان ممن نهضت الجامعة بسواعدهم وعقولهم، حتى تفرّغ لممارسة تخصصه الذي عشقه وفي خدمة وطنه من مكان آخر، مدشناً نقلة في الهوية العمرانية وتطبيق معايير البناء الدولية في مشاريع حكومية جبارة لا تزال شاهدة بذلك.
استمرت الوزارة في هدوئها وبعدها عن الأضواء والضجيج حتى أطلق الملك عبد الله - حفظه الله- مشروعه العملاق للابتعاث الخارجي، فكان أن نفضت الوزارة عنها رداء الدعة واستبدلت دورها الإشرافي بالعمل العملاق حقيقة في توجيه الطلبة والطالبات إلى مقار دراساتهم، والإشراف عليهم ورعايتهم هناك مع متابعتهم أكاديمياً. لكن مما زادني حقيقة احتراماً وإعجاباً بعمل هذه الوزارة هو عقدها لقاءات حتى للدارسين على حسابهم الخاص وآخرها قبل أيام، قامت فيه بتوعيتهم أكاديمياً عن الجامعات في الخارج، وإحاطتهم اجتماعياً وقانونياً عن تلك الدول والمجتمعات المستهدفة للابتعاث، إضافة إلى برنامج توعية وقائي من مكافحة المخدرات. أي أنه برنامج متكامل يشعر المبتعث بالأمان والثقة بالنفس ويحصّنه نفسياً وذهنياً واجتماعياً ومعرفياً، تشكر عليه الوزارة والجهات المشاركة، لأن هكذا جهود تدل على عمق الشعور بالمسئولية الاجتماعية والوطنية، وعلى أن الحكومة بمختلف جهاتها والمجتمع بكل شرائحه مع المؤسسات المدنية والقطاع الخاص، كل مكمل لبعضه لا بد من تضافرهم لنجني ثمار هذا التضافر. المخاوف من الابتعاث ومن تبعاته أو آثاره المحتملة دينياً وأخلاقياً وفكرياً أخذت نقاشاً وجدالاً ما برح ضجيجه حتى اللحظة، فإن كنا نرى أن مائة وخمسين ألف مبتعث أو يزيدون هم منزهون عن الخطأ البشري فيجب أن نتأكد من عدم إصابتنا بانفصام اجتماعي. فلنثق بإيماننا وقيمنا التي بات بعض نجوم هوليوود يدافعون عنها وبعضنا يهاجمها وندعو الله القدير ألا يزعزعها، ومن كره ضوء النهار وأغلق أبواب داره وأوصد نوافذه مخافة الهواء، أعشى بصره وضعفت مناعته وتسللت إليه الأوبئة.
ترى لو كانت وزارة التعليم العالي حين كنت أحد موظفيها في تلك الفترة كحالها اليوم، هل كنت سأكتفي بسنواتي الثلاث التي قضيتها بين أروقتها، تاركاً زخم العمل فيها ومكانتها وتأثيرها في المجتمع والبلد كما هي اليوم، لا أظن ذلك، ولله الأمر من قبل ومن بعد.