كوثر الأربش
كنت أشاهد فيلماً وثائقياً يتحدث عن الجين الأناني، وهو الجين الذي طرح العلة المنطقية لعملية الانتخاب الطبيعي، وفسر ما عجز عن تفسيره علماء الأحياء منذ نهاية الستينيات الميلادية. ورغم أن النظرية هوجمت وأُسيء فهمها إلا أنها كانت قفزة من جديد، أعادت تفكير العلماء للانتخاب الطبيعي بجدية.
لتفسير الفكرة بشكل مبسط، تخيل أن هناك مجموعة كائنات، كل منهم يتصف بالإيثار، فيتبرع بطعامه للآخرين، عدا شخص واحد في المجموعة؛ كان يتصف بالأنانية؛ فيفضل الاحتفاظ بطعامه لنفسه. بعد أعوام طويلة سيبقى الأناني، ويفنى المؤثِرين!
سواء كنت مع أو ضد النظرية إلا أني شعرتُ بأن ثمة ما جعلني أفكر بفوبيا التخصيص.
أعني ذاك الشعور بالوجل تجاه التخصيص في النقد. فلماذا يشعر البعض بالارتياح إذا عمّت الصفة السلبية على الجميع، ولكن يألم أن تخصه هو أو فئته؟
يقال في المأثور الأدبي: «المصيبة إذا عمت هانت وإذا خصت هالت». إن هؤلاء الذين ينتفضون إزاء تخصيصهم بالنقد هم يرغبون بطريقة لا واعية بالخلاص من ألم التخصيص، وتخفيف هذا الألم بأن يشاركه الجميع. وأرى أن هذا الشعور مرده عدم نضج تجاه تعاطيه مع النقد، على أنه «مصيبة» وقعت على كاهله لن يخففها إلا مساندة أكتاف الآخرين. وهذه نظرة مقلوبة كلياً عن النقد الذي يهدف أولاً لاكتشاف تلك الآفات والمصائب التي إن لم تُبادر بالتحليل والنقد ومن ثم المعالجة ستصبح فعلاً مصيبة، وستخص ويلاتها تلك الفئة ذاتها! إن هؤلاء يذكرونني بالطفل الذي يفضل أن ينخر السوس أسنانه بدلاً من التعرض لإبرة الطبيب ومثقابه! لو تمكنا من تصحيح النظرة للنقد، على أنه نعمة وليس نقمة، فرج وليس مصيبة، لرأينا أن هؤلاء الفارين من النقد يشبهون المجموعة المنقرضة التي كانت تؤثر الآخرين بطعامها حتى انقرضت! ويغدو المبادرون بنقد الذات الناجين الوحيدين من فناء مؤكد! لأن عملية النقد تغربل تلك الأفكار غير المجدية التي تقود الإنسان للحلول الخطأ وترك الحلول المجدية فعلاً. تخيل مثلاً مصابَيْن بالحُمى، الأول قاده (فكره التقليدي الذي يحميه من عبء التجديد والنقد) إلى العرافين والمشعوذين لفك سحر «الحمى». الثاني قاده (فكره المتطور) إلى أن الحمى عارض صحي، قد يرافق مرضاً آخر كامن؛ لا بد للطبيب من اكتشافه. الأول قد يكون مصاباً بمرضٍ مميت، لكنه لجأ للطريق الخطأ بفضل إيثار الآخرين بالنقد والاحتفاظ ببركة أفكاره الراكدة حتى تفسد!
هذا ما يجعل شخصاً ما (من بغداد أو دمشق أو حلب أو الرياض أو القطيف أو... إلخ) يغضب جداً حينما تخبره بأن مدينته متخلفة، لكنه لن يشعر بأي انزعاج يذكر حينما تغير العبارة إلى أخرى عامة وتقليدية من قبيل: «إننا في الشرق الأوسط نعيش في دول نامية»؛ لأن عبء التخلف أصبح محمولاً على أكتاف الآخرين أيضاً؛ لقد خف وزنه، وسيبقى يخف ويخف حتى يغيب أثره تماماً كلما وسعنا دائرة الانتقاد. وهذا ما يرومه المصابون بعقدة تخصيص النقد. وهؤلاء من سيبقون في بركهم الآسنة حتى يفنوا!
إننا حين لا نلاحظ احتراق بيوت الآخرين إلا بعد تطاير الدخان لا لوم علينا، لكن من ضعف العقل أن يحترق بيتك وأنت لا تشعر بتاتاً حتى فوات الأوان. السرعة في اكتشاف الأخطاء الداخلية ستحميك مؤكداً من تفاقم الأمور.. وستنجيك دائماً.