انتهى الأسبوع - قبل الماضي - مهرجان (جدة التاريخية) الثاني.. الذي أشرقت أيامه، وتلألأت مساءاته بحضور حشود هائلة من المواطنين والمقيمين والزائرين من العرب والأجانب من داخل (جدة الكبرى)، ومن خارجها من مدن المملكة وقراها القريبة والبعيدة.. جعلت حواري جدة وبرحاتها
وأزقتها ترقص تحت أقدامهم سعادة بهم، وترحيباً بخطواتهم وزحامهم فوقها.
لقد كان ذلك الحضور الباسم والكثيف.. أول (شهادة نجاح) علنية يتلقاها منظمو (المهرجان).. إن كانت هي (لجنة التنمية السياحية) أو (إدارة السياحة والآثار - بجدة) أو (الأمانة) نفسها.. أو هم مجتمعين بالتنسيق بينهم، فقد كان لكل منهم نصيب من ذلك (النجاح)، الذي ساعد عليه دون شك حسن اختيار التوقيت (الزماني) للمهرجان.. ما بين الرابع عشر إلى الرابع والعشرين من شهر يناير الماضي - الموافق للثالث والعشرين من شهر ربيع الأول إلى الرابع من ربيع الثاني من عامنا هذا 1436هـ - وهي من أفضل أيام جدة (طقساً).. إلى جانب توقيته (التاريخي) الحصيف: المحسوب أو المصادف..؟! فقد جاءت الدعوة لعقد هذا (المهرجان).. بعد ستة أشهر من قرار (اليونسكو) التاريخي، السعيد بالنسبة لأهالي جدة والمقيمين بها ومن اختاروا العيش فيها على غيرها من مدن المملكة.. بضم جدة التاريخية لقائمة (حماية التراث العالمي الإنساني)، الذي يتوجب الحفاظ عليه، والذي صدر في العاصمة القطرية (الدوحة) في الواحد والعشرين من شهر يونيه من عام 2014م.. فكان هذا الإقبال الضخم على (المهرجان) من قبل كل الناس.. الذين قدموا لحضور المهرجان والاستمتاع بـ (فعالياته)، ورؤية ما تم إنجازه على أرض الواقع في (المنطقة التاريخية) مما تحدثت عنه صحف المنطقة.. أو لم يتم!
* * *
على الممر السياحي الأول.. إلى داخل المنطقة التاريخية، وبرفقة عدد من شباب المرشدين والمرشدات السياحيات - تحت التدريب - حيث بيتا (البترجي) على يمين الداخل إلى شارع - أو زقاق - (أبو عنيه)، وبيت (الهزازي) على يساره.. بدا واضحاً أن هناك إنجازات عديدة قد تمت على أرض الواقع بـ(رصف) طرقات الممرات السياحية الأربعة، وإعادة إضاءتها بصورة تراثية جميلة.. إلى جانب ما رأيته من ترميم لبعض الدور الفاخرة، التي أضعها في القائمة (الذهبية).. من دور جدة التاريخية، التي يتوجب ترميمها - بمنتهى الدقة والحرفية - للحفاظ على صورتها المعمارية الخلابة التي كانت عليها.. كـ(بيت) محمد علي عبده في برحة (العتيبي)، الذي تولى ترميمه على صورته الفريدة التي كان عليها - كما علمت - أخي وصديقي الفنان هشام بنجابي.. ربما لتحويل أدواره العليا لـ(مراسم) أو (إتيليهات) للفنانين التشكيليين من زملائه وأصدقائه.. وجعل دوره الأرضي - الرحب - ليكون معرضاً لأعمالهم التشكيلية، أو كبيت الشيخ أحمد محمد صالح باعشن.. ثاني رؤساء غرفة جدة التجارية المعجز في رواشينه الخشبية وبوابته، والذي قام بترميمه (آل باعشن) أنفسهم، أو كبيت (البستاني) في (برحة باخشوين).. الذي عاد إليه وهجه المعماري.. إلا أن (ترميمه) الجميل، والذي لا أدري من هي الجهة التي تولته.. قضى - وبكل أسف وحسرة - على (بوابة) البيت الضخمة والفاخرة حقاً، وحوَّلها إلى (دكان) أو متجر.. وقد كان يمكن الحفاظ على تلك البوابة الرائعة.. والاكتفاء بتحويل بقية (مقاعد) الدور الأرضي وحتى (ديوان) البيت الكبير إلى (متاجر) ودكاكين دون (البوابة): (فلا يموت الناطور.. ولا يفنى العنب).. كما يقول أشقاؤنا اللبنانيين..!! وكـ(بيت) الشيخ عبدالعال - أحد شيوخ (الفرانة) في تلك الأيام -.. الذي حافظت عليه أسرة (الشيخ) هو و(فرنه) الصغير العجيب، الذي كان يقدم أشهى (سحيِّرة) في رمضان - فقط - من كل عام، لتفاجئنا في سيرنا على ذات الممر السياحي الأول إحدى سيدات العائلة - بحجابها المحتشم - والتي أخذت تتولى إدارة الفرن.. فيما يبدو - بدعوتنا لتناول قطعة من فطيرة (العيش أبو اللحم) بعد أن (صَغَّرَتها) ووضعتها في طبق صغير من القصدير.. حتى حولتها إلى ما يشبه (الوجبات السريعة) بمناسبة المهرجان.. ليشتريها رواده إن أحبوا؟ وقد كان هدفها.. أن تستفتينا في (مذاقه) إن كان على (أصوله) الحجازية التي كانت.. أم لا؟ وقد أفتيتا بأنه (على أصوله).. مضافاً إليه هذا التطوير المستحب، الذي يمكن أن يمتد إلى حبات (البُف باللحم) الشهيرة: المنتفخة والقليلة اللحم.. بوضع حباته إن كانت اثنتين أو ثلاث في طبق من القصدير وتقديمه لـ (الزبائن) على الواقف والسريع.
بعدها.. كان جمعنا من المرشدين والمرشدات، قد وصل إلى (برحة) باديب الصغيرة.. بعض الشيء، لتسعدنا واجهة البيت الشمالية، وقد تم ترميمها على صورتها القديمة والجميلة.. إلا أن الدور الأرضي من البيت تحول أيضاً إلى دكانين أو ثلاثة.. وهو ما أزعجني وربما أزعج أحد مالكيه أو ورثته - الشيخ أحمد باديب - وحمله على أن يشتري بيت أكبر مثقفي (جدة).. وأقلهم إنتاجاً في الثلاثينات والأربعينات الميلادية من القرن الماضي: الأستاذ - المرحوم - يونس سلامة.. ليعيد بناءه على صورة متماثلة مع ما حوله، ويجعله مقراً له في المنطقة التاريخية.. يستقبل فيه زواره وأصدقاءه من عشاق المنطقة التاريخية والمترددين عليها.
كان المسار.. يفضي بنا إلى زقاق (بئر) جوهر أو (بير جوهر) كما كان ينطقها السابقون الأولون، فلم نجد لـ(البئر) أثراً.. حتى إذا تخطينا بيت (باخيضر).. كان (مَغْلَق) أو (مخزن) بيت الجمجوم لـ(بضائعهم) يقف إلى جانبنا على ذات المسار، وإلى الشمال من (مسجد المعمار) الرائع والفريد، وهو الذي حوله الدكتور غازي عبداللطيف جمجوم إلى (قاعة) للقاءات والندوات والمحاضرات، استضافت فيه الشركة المنفذة لبرنامج (المهرجان) وفعالياته كل محاضراتها ومحاضريها.. وقد كان من نصيبي فيها محاضرتان في مساء الثالث والسادس من أيام المهرجان العشر.
* * *
وإذا كان جمعنا قد ابتهج.. وهو ينعطف يساراً في المسار وصولاً إلى بيت فبرحة (نصيف).. برؤيته لـ(بيت عاشور) أو (نور ولي) بكوكبة رواشينه المعجزة في أحجامها وأشكالها.. والتي لم تُمَس ولله الحمد!! فقد كان جمعنا يأسى.. لوجود ذلك البيت (الكاريكاتوري) الذي اغتصب موقعه أمام بيت الناظر - أو بيت ذاكر - في برحة العتيبي في الجزء الأول من المسار السياحي الأول.. بحجة تقديم نموذج لـ(البيت الجداوي) بمجلسه وصفته ومُؤخره، يتم فيه استقبال عابري المسار.. لإطلاعهم على تفاصيل (البيت الجداوي)، وقد كان الأفضل من هذا البناء (الخزعبلي) الذي شوه (البرحة) أو اغتالها على وجه الدقة.. أن يتم تأجير أو نزع ملكية (بيت ذاكر) نفسه، وتحويله إلى (بيت جداوي) يتم فيه استقبال الضيوف والزوار وعابري ذلك المسار.. لأنه - لمن لا يعرفه - يمثل بحق البيت الجداوي بكل تفاصيله وجزئياته خير وأدق وأجمل تمثيل، لكن الأسى الأكبر.. عندما شاهد جمعنا في إيابه كما في ذهابه ذلك (التخريب) - الذي سمي ترميماً - لـ (بيت مهنا) سابقاً و(بيت الشربتلي) حالياً.. حتى مسخه وجعله بيتاً آخر، يصعب التعرف عليه حتى لأهالي حارة الشام الأصليين أنفسهم!! وقد كان البيت يمثل واحداً من أجمل خمس بيوت من البيوت التي تختال بها جدة التاريخية؟!
* * *
نعم.. كان نجاح المهرجان عريضاً واسعاً يمكن أن يطغى على سلبياته، لولا أن تلك السلبيات.. ستؤثر حتماً على مسيرة هذا المهرجان، الذي يتفق الجميع.. على وجوب استمراره عاماً بعد عام وفي ذات التاريخ، وذات الليالي والأيام (الأفضل) طقساً، و(الأنسب) توقيتاً.. لـ(العوائل) وأولياء الأمور وطلبة وطالبات المدارس والمعاهد والجامعات، وهو ما يستدعي ذكر تلك السلبيات بصدق وشفافية.. حتى تلقى الاستجابة لها من (السياحة) والمحافظة والأمانة.. والشركة المنفذة لـ(برنامج) المهرجان وفعالياته.
لعل أول تلك السلبيات - وأكثرها طرافة - تتمثل في ضياع بطاقات الدعوة لـ(حفل الافتتاح) بين (المحافظة) والشركة (المنفذة)..!! فـ(الشركة) تقول إن البطاقات لم تصلها.. لتقوم بإرسالها إلى وجهاء وأعيان جدة من أهلها والمقيمين بها وممن اختار سكناها، و(المحافظة) تقول.. بأنها أرسلت البطاقات لـ(الشركة)، وأن الشركة.. تقاعست في إيصالها لأصحابها..!! وكانت النتيجة.. أن أكثر من نصف المعنيين بحضور حفل الافتتاح.. لم يلبوا (دعوة) لم يستلموها!! رغم ملاحقة (الشركة) في يوم الافتتاح وسابقه هاتفياً.. لعدد منهم لتذكيرهم بـ(الحضور).. إلا أن هؤلاء وأولئك لم يحضروا حفل الافتتاح الذي غابت عنه وجوه كثيرة.. كان يتحتم وجودها..؟!
أما ثاني تلك السلبيات.. فقد تمثل في تلك (الربكة) المروية في الوصول إلى المنطقة التاريخية أو مغادرتها.. فقد كان الأمران يكلفان قاصد المهرجان ومغادره.. ما بين الساعة إلى الساعتين!! لقد كان (المرور) غائباً حقاً عن حومة (المهرجان)، فإذا حضر.. أقفل الطرق المؤدية إلى مدخل المهرجان الشمالي عبر طريق المدينة.. لأن فلاناً من المسؤولين سيصل إلى (المهرجان) أو سيغادره..؟!
وكان ثالثتها.. هو في ذلك الكم المبالغ فيه من (الفعاليات)، والتي بلغت أربعة وثمانين فعالية.. لا حاجة ولا أهمية ولا ضرورة لـ(نصفها) على الأقل..؟
فما الحاجة لـ (فعالية) عن (الكركون)؟
وما الضرورة لـ(جناح إدارة الجوازات)..؟ وما (القيمة) أو المتعة.. في فعالية عن (العصى)..؟ وإن كنت لا أعلم - على وجه اليقين - من هي الجهة التي اقترحت هذا الحشد من الفعاليات؟ إلا أنني ألمح من ورائه.. رغبة في إقناع المحافظ الأمير مشعل بن ماجد باعتباره - رئيس لجنة التنمية السياحية - الذي بيده تقدير وتقرير كل ما يخص (المهرجان).. بـ(زخم) تلك الفعاليات حتى يرضى عنها.. فـ (يجيزها) أو لا يمانع في (ترسيتها) على إكس أو زد من الشركات!
وهو ما يدعوني للتوجه إلى سموه.. بتشكيل لجنة من آداب جامعة الملك عبدالعزيز، والنادي الأدبي، وجمعية الثقافة والفنون، والغرفة التجارية، والأقسام الثقافية والفنية لدور جدة الصحفية، إلى جانب أصحاب الخبرة والدراية بفعاليات المهرجانات الشعبية، آملاً أن تريح هذه اللجنة جمهور المهرجان القادم من هذا الكم الهائل من الفعاليات التي لا لزوم لها، ومن المحاضرات اليومية.. الذي وصل عددها إلى محاضرتين.. في كل ليلة من ليالي المهرجان! فقد تعب الناس من (الكلام)، الذي يحاصرهم في الجوامع والإذاعة والتلفزيون والصحف والنوادي، وسئموا منه، وهم يبحثون في مهرجان لـ(جدة) عن فعاليات أخرى تشبع وتمتع وترفه عن حضوره، وهي تذكِّر بجدة وتاريخها وأيامها ولياليها.. بـ(صباحاتها) ومساءاتها.. بـ(صهبتها) و(مجرورها).. بـ(مزمارها) و(بحريها)..!!
* * *
على أي حال.. كان جميلاً أن يتواكب - مصادفة - قرار (اليونسكو) بضم جدة لـ (قائمة التراث المعماري الإنساني).. مع هذا الحنين الجارف الذي اخذ يتنامى - خلال السنوات القليلة الماضية - في صدور أبنائها، والمقيمين بها، ومن اختاروا العيش فيها على سواها.. بـ (العودة) إلى زمنها الجميل الذي كان، والذي ربما عبرت عنه تلك الجمعيات المدنية الرائدة الثلاث: عيون جدة، وقلب جدة، وتراث جدة..؟!
لتعيش جدة أيامها القادمة.. بين (حلمي): الحفاظ على (تراثها المعماري).. و(عودة الروح) إلى هويتها التي كانت: هوية القيم العربية الأصيلة والنبيلة.. هوية التسامح والتراحم.. هوية الفن والإبداع والريادة.!!