عندما يسابقنا قادة وأبناء الأمة العربية في تفجعهم ولوعتهم وبكائهم.. على فقيد الوطن: الملك عبدالله بن عبدالعزيز.. فإننا أسعد ما نكون بهذا (السبق)، الذي نقدِّر أسبابه، ونكبر دواعيه.. فهم يبكون حكمة (قائد، وشجاعة (ملك)، وريادة (سياسي).. لم يسبقه أحد - وبهذا القدر - في مبادراته السياسية العربية.. طوال سنوات حكمه العشر للمملكة العربية السعودية.. حتى أصبح بحق: ملك المبادرات العربية.. دون منازع.
* * *
وإذا كان تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.. لم ينس للأمير فهد بن عبدالعزيز - إبان ولايته للعهد في سنوات حكم الملك خالد.. رحمه الله - مبادرته لـ(السلام)، والتي سرعان ما طواها التوقيع على اتفاقيات (سلام كامب ديفيد) عام 1979م بين مصر (السادات) وإسرائيل (مناحيم بيجن)، فإنه يذكر بكل التقدير والإجلال.. مبادرة الملك فهد لـ(جمع) القيادات والفعاليات السياسية اللبنانية في مدينة (الطائف) في شهر أكتوبر من عام 1989م، لـ(التشاور) والتحاور.. تمهيداً لإعداد وثيقة (الوفاق الوطني اللبناني)، التي صادق عليها مجلس النواب اللبناني - فيما بعد - في الخامس من شهر يناير من عام 1990م.. والتي أصبحت وكأنها تعديل لـ(الدستور اللبناني) غير المكتوب، والتي أنهت سنوات الحرب اللبنانية الأهلية الطويلة.. وأقامت نظاماً سياسياً جديداً - مؤقتاً - يتم فيه توزيع المقاعد النيابية (بـ»التساوي» بين المسيحيين والمسلمين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين، ونسبياً بين المناطق)، و(مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية).. إلى آخر ما جاء في (وثيقة الوفاق الوطني).. التي مايزال العمل بها سارياً حتى يومنا هذا.
ولكن.. مع تراجع صحة الملك فهد في آخر أيامه.. كان ولي العهد - آنذاك - الأمير عبدالله بن عبدالعزيز يقدم أولى مبادراته لـ(السلام) في نزاع الشرق الأوسط عبر وسائل الإعلام الأمريكية آنذاك، ولجدارة (المبادرة) التي كانت أوسع وأعرض وأجرأ وأكثر تفصيلاً.. فقد جرى تقديمها للقمة العربية (الرابعة عشرة)، التي عقدت في العاصمة اللبنانية (بيروت) في شهر مارس من عام 2002م.. حيث تبنتها القمة بـ(الإجماع)، وتم تقديمها لإدارة (بوش الابن) في ولايته الأولى.. فلم تحظ منه أو من (شارون) رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك بالقبول، ليعاد عرضها ثانية عبر لجنة وزارية - من وزراء الخارجية العرب - قامت بتشكيلها الجامعة العربية.. على (بوش الابن) في دورته الثانية، ثم على الرئيس الديمقراطي (باراك أوباما) فلم تلق القبول لا منه.. ولا من (إسرائيل) (شارون) أو (نتنياهو) بالتعاقب، وهي التي قال عنها معظم العقلاء من الساسة: (لو أنها عرضت على رئيس الوزراء أو المؤسس لإسرائيل: «ديفيد بن جوريون».. لخرّ ساجداً حمداً لله)!!
لقد حير الرّفض الإسرائيلي كثيرين في العالم ككل.. ولذلك فربما كان أصدق وأدق تفسير للرفض الإسرائيلي - المدعوم أمريكياً - للمبادرة.. هو أن إسرائيل لا تريد (السلام)، ولكنها تريد (الأرض) باستمرار الاحتلال وتقادمه.. وبتشريد الفلسطينيين أو حتى بـ (قتلهم).. إن استطاعت..!!
* * *
لقد سبق ذلك عام 2000م.. (مبادرته العربية) الأولى لحل مشكلة (ترسيم الحدود) مع الجمهورية العربية اليمنية.. التي ظلت عالقة منذ التوقيع على (معاهدة جدة)، التي أبرمها الملك فيصل مع الرئيس عبدالناصر عند زيارته السرية لـ (جدة) في شهر أغسطس من عام 1965م، ليتم التوقيع بين خادم الحرمين الملك عبدالله والرئيس اليمني علي عبدالله صالح - آنذاك - على (اتفاقية جدة) في شهر يونيه من عام 2000م لتنهي نزاعاً حدودياً طويلاً مضى عليه أكثر من أربعين عاماً.. في سلام وتعاون ومحبة.. كان الشعبان أحوج ما يكونا إليه..!!
ثم كانت مبادرته العربية (الثالثة).. عندما جمع الفلسطينيين بـ(فتحهم) و(حماسهم) في العشر الأواخر من رمضان من عام (2007م) في (مكة) حول البيت العتيق.. لإنهاء (التناحر) بينهم، الذي بلغ مرحلة الاقتتال في الشوارع والميادين بين فلسطينيي (الضفة) وفلسطينيي (القطاع).. فكان أن استجاب الطرفان لـ(مبادرته)، وتعاهدا عند الكعبة.. وتوقف القتال، وأخذ الجانبان.. يسيران في طريق العودة إلى حكومة فلسطينية واحدة تنهي انشقاق (حماس) عن سلطة الرئيس محمود عباس واستقلالها بإدارة (القطاع).. منفصلاً، إلا أنها وبكل أسف نكصت بوعودها وتعهداتها بالعمل مع (فتح) لتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة، تهيئ لانتخابات برلمانية جديدة.. تتبعها انتخابات رئاسية، وعادت (حماس) بعد ثلاثة أشهر للانقسام مجدداً ولإدارة (القطاع) منفردة.. وهو ما أدخل (القطاع) في حرب إسرائيلية تدميرية جديدة.. لم يخرج قطاع غزة من آثارها إلى يومنا هذا..؟!
* * *
ورغم هذا الفشل.. الذي لم يكن له يد فيه، إلا أنه ظل على إيمانه.. بأنه لابد وأن يكون للأمة العربية (كبير) بعد سقوط أكبر رؤسائها في مستنقع النهب وبيع الوطن وتوريثه؟! قائد.. يملك من المكانة والإمكانات ما يؤهله للم شمل الأمة.. إذا تمزق، وقد كان هو - وليس غيره - المؤهل لذلك الدور.. بعروبته، وتجربته السياسية الطويلة، وموقعه كـ (خادم للحرمين الشريفين)، وإمكاناته الاقتصادية، وحسن علاقاته.. مع القوى السياسية الكبرى الفاعلة في العالم.. إن كان في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية أو الصين والهند والبرازيل.. الذين يمثلون القوى الاقتصادية الجديدة في عالم الألفية الثالثة، لتواجهه - عربياً - أزمة الصراع اليمني على السلطة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من حكم الرئيس علي عبدالله صالح، الذي قاده انفصاليو الجنوب، وحوثيو (صعدة) الذين تحولوا من (الزيدية) إلى الاثنى عشرية الإيرانية فجأة، و(إصلاحيو) الإخوان بقيادة أبناء الشيخ (عبدالله الأحمر).. الذين أخرجهم حزب (المؤتمر العام) من شراكتهم في السلطة معه.. لينقلبوا عليه، فكان أن تقدم بمبادرته العربية (الرابعة) الرائدة في الثلاثين من نوفمبر من عام سقوط مبارك - في فبراير 2011م - لإنقاذ اليمن وشعبه.. وإنقاذ دول وشعوب الجزيرة العربية.. من اقتتال يصعب التكهن بنهايته!؟ فكانت المبادرة الخليجية.. التي رعاها واحتضنها الملك عبدالله، واستضاف أطيافها اليمنية في قصره بالرياض.. إلى أن تم التوقيع عليها وعلى مراحل تنفيذها (المزمَّنة)، إلا أن الحوثيين نكصوا بوعودهم - وكما فعل الحماسيون الفلسطينيون من قبل - وانقضوا على (المبادرة الخليجية) - خدمة لأجندتهم المذهبية التي جاءت فرصتها، بعد أن تباطأ الرئيس عبدربه منصور هادي أو رئيس لجنة صياغة الدستور اليمني الجديد الدكتور إسماعيل أبو زيد في إنجازه.. وتقديمه لأمانة (المبادرة) ومن ثم دعوة اليمنيين للاستفتاء عليه، وصولاً للانتخابات التشريعية فالرئاسية..!! وهو ما وضع (اليمن) وشعبه في متاهة سياسية لا أحد يعلم كيف يكون الخروج منها في ظل العته الحوثي الذي مازال يحمل البندقية ويقود دبابات الجيش اليمني - الغائب - في شوارع العاصمة اليمنية (صنعاء).. وهو يتحدث عن الحرية والانتصار بـ (المهمشين) المظلومين..!!
* * *
لكن كان من حسن الحظ عربياً أن هذا الاضطراب الحوثي المعتوه والمدمر، الذي سمى نفسه بـ(الثورة) مرة.. وبمحاربة الفساد أخرى.. وبـ (الانتصار) لمخرجات الحوار الوطني اليمني الشامل (ثالثة) طلباً لتأييد اليمنيين ورضاهم، أنه حدث.. في أواخر شهر سبتمبر الماضي، ولم يحدث قبل ذلك.. أو عند قيام ثورة الثلاثين من يونيه الإنقاذية لثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية عام 2011م.. من قبضة (الإخوان) و(أمميتهم).. لتجد (مبادرة) خادم الحرمين العربية (الخامسة) في خدمة نجدتها سياسياً واقتصادياً.. بعد أن انكشفت ألاعيب الإخوان المسلمين خلال الأحد عشر شهراً من حكمهم، لتمضي خريطة مستقبل الثورة رخاء.. رغم محاولات بقايا الإخوان من تعكيرها باغتيال من يستطيعون الوصول إليهم من الأبرياء.. أو بنسف كشك في أقاصي الصعيد.. أو مركز شرطة في أطراف الجيزة..!!
ثم كانت مبادرته العربية (السادسة) والأخيرة.. وهي مبادرة (الصلح) بين دولة قطر وجمهورية مصر العربية.. التي لا يستغني عنها قطرياً بحال، ليموت قرير العين.. وسط أكاليل من الحب وفردوس من الدعوات.. تاركاً (إرثاً) من المبادرات العربية الرائدة (يتحتم) الحفاظ عليه.