والعالم يستقبل عام (2015م) بالبشر والتفاؤل والأمل، وبأشجار أعياد الميلاد وهدايا (بابا نويل) الأسطورية.. يصح أن يودِّع عالمنا العربي عام 2014م بالكثير من الحفاوة والتقدير والامتنان رغم الفوضى الإسلامية التي شهدتها بعض شهوره، إن كان من الحوثيين أو جبهة النصرة أو أنصار بيت المقدس أو (داعش) و(فجر ليبيا)..
أو غيرهم من العصابات التي انتشرت في عالمنا العربي كـ(النار) في الهشيم، وهي تتسمى بـ(الإسلام) والإسلام منها براء.. فقد كان عام ربيع الحرية حقاً.. في دولتيه الثائرتين: مصر وتونس، فبعد عام ونيف من المعاناة (الإخوانية) في مصر.. بطيشها وتهورها بداية، فـ(دمويتها) و(تدميرها) بعد عزل (مرسي) نهاية.. استطاعت (مصر) أن تعيد - خلاله - كتابة (دستورها) الوطني الجديد، وأن تصوت له في الرابع والخامس عشر من يناير الماضي، وأن تجري انتخاباتها الرئاسية المبكرة في السادس والسابع عشر من شهر يونيه - 2014م - لتأتي بـ(منقذ) ثورة الثلاثين من يونيه - قبل الماضي - المشير عبدالفتاح السيسي إلى سدة الرئاسة.. فيبقي حكومة الدكتور إبراهيم محلب الانتقالية في إدارة البلاد إلى حين إجراء الانتخابات التشريعية - أو البرلمانية - المقرر لها شهر مارس القادم، ليكلف حينها حزب الأغلبية فيها بتشكيل الحكومة.. فيكتمل آنذاك إنفاذ (خريطة المستقبل) التي قدمتها ثورة الثلاثين من يونيه.. بالتمام والكمال، ويبدأ العهد الفعلي لجمهورية مصر الثالثة.. بدستورها الوطني الجديد، ورئيسها المنتخب، وحكومتها الشرعية المرتقبة بعد انتخاباتها البرلمانية القادمة!!
* * *
لقد تكرر في (تونس) السبَّاقة بالثورة - بأحد عشر يوماً - ما حدث في مصر.. حيث خطفت حركة (النهضة) الإسلامية المعادلة لـ(إخوان) مصر.. ثورة الرابع عشر من يناير منذ بدايتها، وقادت (المرحلة الانتقالية) ببرلمان - ذي أكثرية إسلامية -، و(ترويكا) حكومية إسلامية بقيادة حركة النهضة - التي سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي.. في الأول من شهر مارس.. بعد شهرين من قيام الثورة - تماماً كما تحول (الإخوان) إلى حزب سياسي تحت مسمى (الحرية والعدالة)، إلى جانب (رئاسة للجمهورية) متحالفة معه.. مثلها الناشط السياسي المعارض للرئيس - الهارب من الثورة - زين العابدين بن علي: السيد محمد المنصف المرزوقي.. بعد انتخابه (برلمانياً)، ليكون رئيساً لمرحلة الأربع سنوات الانتقالية، والتي عانت فيها (تونس) سنوات صعبة.. عرفت فيها الاقتحامات والاغتيالات وقتل جنود الجيش والأمن المركزي وحرق مقار الأحزاب لأول مرة في حياتها، وإن لم تبلغ في حدتها وتهورها ما بلغته شهور جماعة (الإخوان) في (مصر)، لتفيق (تونس) بقيادة نقابة الشغل التونسية والجمعيات النسائية واتحادات الطلبة والمهنيين.. وتلتف حول (حزب نداء تونس) الجديد بقيادة الباجي السبسي.. هرباً من حزب النهضة وترويكته، والذي كان شعاره في معركتي الانتخابات (التشريعية) في السادس والعشرين من شهر أكتوبر (2014م)، و(الرئاسية) في الواحد والعشرين من شهر ديسمبر.. واحداً: (على شعبنا أن يختار بين الرجوع إلى «ترويكة» - النهضة الإسلامي وحليفيه التكتل والمؤتمر - التي خربت البلاد خلال ثلاث سنوات.. أو أناس آخرين يريدون مستقبلاً أفضل لتونس)؟! واختار الشعب التونسي بملء إرادته الحرة (أناساً آخرين): اختار أعضاء حزب (نداء تونس) لبرلمانه الجديد.. جعلت منه صاحب الأغلبية، واختار رئيسه (الباجي قائد السبسي).. لرئاسة الجمهورية رغم أعوامه الثمانية والثمانين.. بينما أخذ منافسه: الرئيس المنتهي ولايته البرلمانية الانتقالية (محمد المنصف المرزوقي).. النهضوي روحاً وفكراً والمستقل شكلاً يردد في حملته الرئاسية - وكما فعل الإخوان في مصر - قائلاً في لقاءاته الصحفية وناشراً كلماته في مؤتمراته الحزبية: (بدون تزوير لن ينجحوا)!!
ولكنهم نجحوا.. ونجح (السبسي) بنسبة 55,68% من الأصوات، بينما فشل المنصف المرزوقي الأكثر شباباً (69 عاماً) بحصوله على نسبة 44.32% في دورة الإعادة الثانية.. بشهادة مراقبي الاتحاد الأوروبي في الجولتين: التشريعية والرئاسية.. التي حملت السبسي إلى (قصر قرطاج) ليكون الرئيس التونسي الأول المنتخب جماهيرياً..!!
وإذا كان مرشح الرئاسة الخاسر (محمد المنصف المرزوقي) قد تحلى - على غير المتوقع - ببعض أخلاقيات الديمقراطية الراقية وسلوكياتها.. عندما (هنأ منافسه الرئيس السبسي بفوزه، وتعهد بعدم الطعن في النتائج)!! إلا أنه سرعان ما عاد عن تعهده وكما فعل ويفعل معظم رجالات أو أدعياء الإسلام السياسي، الذين استغلوا في بحثهم عن (السلطة) والتشبث بها.. واستبد بهم الشغف بـ(الثراء): ديناراً ودولاراً!! وهو يتساءل - معارضاً - كيف تنتهي أعمال لجنة الانتخابات - يوم الجمعة - قبل الماضية قبل أن تنظر في الخروقات التي نقلها له راصدو الانتخابات من قبله..؟ وهو ما يجعلنا نتساءل بدورنا بأسف وحرقة: أين ذهب أولئك المسلمون الورَعة الأتقياء الزهاد الذين يخافون الله في أوطانهم وأبنائه.. الذين تمتلئ كتب التاريخ بقصصهم التاريخية، والتي أشبه ما تكون بـ (الأساطير) منها إلى (الحقائق)..؟
أين رجال من أمثال الفقيه («ابن شريح»، الذي دعى لتولي قضاء مصر.. فامتنع. فجيء له بـ(السيف)!؟ فلما رأى ذلك: أخرج مفتاح بيته.. وكان معه، ثم قال: هذا مفتاح بيتي.. وقد اشتقت إلى لقاء ربي)..؟!
* * *
وهكذا - مع انتهاء عام (2014م) كان بلدا الثورتين الأصيلتين.. يعيشان (ربيع الحرية) الذي أطل عليهما خلاله.. بـ دستور وطني مجمع عليه، و(رئيسين) منتخبين بشرعية لا شبهة فيها.. أمام كل منهما مشكلته الأمنية والاقتصادية العامة، وأمام أولهما (السيسي) مشكلته الميدانية الخاصة.. في صياغة قانون.. يمنع وصول الإرهابيين من (الإخوان)، والنصابين والحرامية من (فلول) الحزب الوطني.. من الوصول إلى البرلمان، والتمتع بصلاحياته وحصانته.. عند إجراء الانتخابات التشريعية المصرية القادمة..؟! وأمام ثانيهما (قائد السبسي).. مشكلته في العثور على الشخصية القيادية المناسبة في هذه المرحلة الثورية الدقيقة، والقادرة على تلبية احتياجات الوطن التونسي بشماله وجنوبه.. شخصية بحنكة ودربة رئيس الوزراء الأسبق (الهادي نويرة) مثلاً، الذي استطاع أن يقود (تونس) إلى الرخاء في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته في بلد ليست به قطرة نفط واحدة.. ولكن كان لديه شباب وسواعد قادرة على أن تعمل وتجعل من الصناعات التونسية التقليدية وغير التقليدية، والمنتجات الزراعية التونسية، والشواطئ السياحية التونسية.. بدائل لـ (النفط) وأمواله، تكفي تونس.. وتلبي حاجاته التنموية، أو شخصية حكيمة مثقفة واعية كـ (محمد المزالي).. الذي استطاع أن يعتمد على الآداب والفنون والمسرح والسينما والموسيقى والغناء.. ويجعل لها مهرجانات سنوية يُحج إليها من الشرق ومن الغرب كل عام في مواسمها، دون أن ينسى استثمار المناخ الجغرافي التونسي المعتدل والجميل في جربة وسوسة و(عين دراهم) والحمامات.. ليجعل منها ملاذاً للهاربين من صقيع أوروبا أو الفارين من حرارة أقاليم الشرق الأوسط العربية.
وهو أمر.. لن يكون صعباً عليه خاصة في ظل إيمانه الذي أعلن عنه عشية فوزه بـ (الرئاسة التونسية) بأنه (لا مجال لانفراد حزب «نداء تونس» بالسلطة)..؟! وكما كان حال أصحاب الـ(ترويكا الإسلامية).. الذين كانوا لا يريدون أحداً سواهم!! وأن (المخاوف من تغول «نداء تونس».. هو نوع من الأوهام) فـ (رئيس الوزراء التونسي القادم قد يكون من «النداء» أو من شخصية مستقلة)! إلا أنه لا يمكن أن يكون من بين أعضاء الحكومة (وزراء عملوا خلال فترة حكم ابن علي)!!
* * *
فهل يتذكر الرئيسان (السيسي) في (مصر).. و(قائد السبسي) في تونس: مُشعلا ثورتي (الخامس والعشرين) من يناير في مصر، و(الحادي عشر) من يناير في تونس.. اللتان أتتا بـ(السيسي) إلى قصر العروبة في القاهرة، وبـ(السبسي) إلى قصر قرطاج في تونس..؟!
هل يتذكر الرئيس عبدالفتاح السيسي الطالب (خالد سعيد).. الذي مات تحت التعذيب في الإسكندرية: اشتباهاً.. تحت قانون الطوارئ (وقد سمي بـ»شهيد الطوارئ») الذي كان يمدده (مبارك) كلما انتهى أجله.. وسط تهليل مجلس الشعب المصري ونوابه المزورين..؟! فاندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير.. بعد استشهاده..؟ وهل يتذكر الرئيس السبسي.. الشاب (محمد بوعزيزة) في قرية (سيدي بوزيد) في تونس، الذي أحرق نفسه كمداً وقهراً، لأن ضابط المخفر.. لم يسمح له بوضع (عربة الخضار) التي يقتات هو وعائلته من عائدها في أحد شوارع قريته.. فاندلعت ثورة الحادي عشر من يناير..!؟
إن لـ(كليهما) حق.. وهذا الربيع الذي أطلق نسمات الحرية من بعد (موتهما)، لن تكتمل الفرحة به.. إلا أن نال حقهما: تكريماً وإنصافاً.. وهما في غيبتهما الدامعة الحزينة.