معظمنا، والمعنيون منا خاصة.. يتذكرون بالتأكيد (يوم الإعلان العالمي) لـ (حقوق الإنسان) في العاشر من ديسمبر من عام 1946م، والذي أخذ يجري الاحتفال به على مستوى دول العالم وشعوبه وحكوماته الديمقراطية.. منذ العاشر من ديسمبر من عام 1950م.. وإلى عامنا هذا الذي من رحل قبل أيام.
.. لكن ندرة من شعوب العالم الثالث، وقلة من شعوب العالم أجمع تعرف قصة ولادة ذلك (اليوم) وتلك الوثيقة العالمية الإنسانية الرائعة التي خرجت عنه.. والتي تعتبر واحدة من أعظم إنجازات منظمة (الأمم المتحدة) في بواكير سنواتها، فقد شكلت جمعيتها العامة عام 1946م.. (لجنة) برئاسة مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية لدى (المنظمة) آنذاك: السيدة اليانور روزفلت.. حرم بطل الحرب العالمية الثانية الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي رحل فجأة قبل عام، لتتولى صياغة ما جاء في (البند الأول) من ميثاق الأمم المتحدة.. الداعي لاحترام (حقوق الإنسان)، واعتماد (الحريات الأساسية) لكل بني البشر.. دون تفرقة من (أصل) أو (جنس) أو (لون) أو (ديانة).. فكان أن أنجزت - خلال عامين - مع مستشاري (اللجنة) وخبرائها.. من القانونيين والمستشارين والمناضلين الإنسانيين تلك (الوثيقة) بقاعدة حقوقها الأربعة: (الحق في الحياة، والحق في الحرية، والحق في الأمن على النفس من الإيقاف التعسفي أو النفي، والحق في محاكمة عادلة علنية من قضاة محايدين)، وبـ(حرياتها) الأربعة الرئيسية: (في التفكير، وفي الدين، وفي الضمير، وفي تأسيس جمعيات مسالمة).. ليتم اعتمادها من قبل مندوبي الدول أجمع في العاشر من ديسمبر.. وامتناع (ثماني دول) عن تأييدها.. هم: الاتحاد السوفييتي وكتلته الأوروبية الشرقية، ودولة جنوب أفريقيا، وإحدى الدول العربية).. التي قيل - فيما بعد - عن أسباب امتناعها عن تأييد تلك الوثيقة.. بأنها أسباب دينية..!!
* * *
على أي حال.. اعتقدت الولايات المتحدة الأمريكية - حقاً أو باطلاً - أن تلك (الوثيقة).. هي وثيقة (أمريكية) وليست (أممية)!! فقد خرجت من (مقر) الجمعية العمومية في (نيويورك)، ومن لجنة من لجانها برئاسة (أمريكية)، وأنها متطابقة مع حقوق وحريات المواطن الأمريكي المكفولة.. بحسب الدستور.. رغم ما شهدته سنوات الخمسينات بداية، والستينات فيما بعد من ألوان التفرقة العنصرية بين الأمريكي الأبيض والأمريكي الأسود: فـ (الكلاب) و(الينجرو) أي السود، ممنوعون من دخول مطاعم البيض.. ومدارسهم.. بل و(مواصلاتهم)..!!
ومع ذلك استطاعت الولايات المتحدة أن تقدم نفسها لـ(العالم) كزعيمة للعالم الحر وديمقراطياته ولـ(حقوق الإنسان) فيه.. وليس كـ(زعيمة) للمعسكر الرأسمالي في مواجهة (الاتحاد السوفييتي) زعيم المعسكر الاشتراكي - الشيوعي الملحد - كما كان يصفه بعض القادة العرب المسلمين، الذين ضج منهم.. وزير خارجية الاتحاد السوفييتي العتيد (أندريه جروميكو) فرئيسه فيما بعد..!!
وقد نجحت الولايات المتحدة في تلك المواجهة.. التي امتدت لأربعة عقود، والتي عرفت فيما بعد - بالحرب الباردة - بين المعسكرين.. بـ (بريق) انتصاراتها في الحرب العالمية الثانية.. وبـ (ثرائها) وإمكاناتها الهائلة مدنياً وعسكرياً، وبـ (مكنة) إعلامها الضخمة، التي كانت موضع تصديق عالمي دائم، والتي كانت تقدم الولايات المتحدة الأمريكية وكأنها الفردوس الأرضي، وجنة الأحلام والحريات لكل عشاقها فوق المعمورة.
ومع نجاحها - في الخمسينات - في تقسيم (كوريا) إلى كوريتين: جنوبية رأسمالية.. وشمالية (اشتراكية) أو (شيوعية)، وفشلها في - الستينات - بالاحتفاظ بـ (فيتنام الجنوبية) أمام الزعيم الفيتنامي (هوشي من).. المناضل من أجل (وحدة) التراب الفيتنامي، وما ارتكب في تلك الحرب وفي غيرها سراً وعلناً في دول أمريكا اللاتينية وغيرها والتي كان للعرب نصيب منها في 67م.. من جرائم وفظائع يندى لها الجبين.. إلا أن صورة أمريكا المشرقة الوضاءة ظلت على ما هي عليه في نظر بقية دول العالم، دون أن يتبين للعالم.. جانباً من تلك الصورة المشرقة، وذلك النجاح الأمريكي المدوي في العالم كله.. بأنه كان من صناعة أقوى أجهزة استخبارات على وجه الأرض، هو جهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية.. المعروف بـ(الـCIA)، إلا عندما أخذت تتسرب في الثمانينات بعض الأخبار.. عن هذا الجهاز وقدرته على تجنيد ليس صغار الصحفيين والإعلاميين.. بل والكثير من الرؤساء والوزراء والمسؤولين في العديد من دول العالم.. من خلال تلك التسريبات عن المكافآت الباهظة التي كانت تصرف لهؤلاء الرؤساء والوزراء.. وكبار المسؤولين ومَن في حكمهم..!!
* * *
إلى أن سقط (الاتحاد السوفييتي) عام 1991م.. وانفرطت جمهورياته الخمس عشرة، وتفككت دول حلف (وارسو) بانضمامها إلى دول الاتحاد الأوروبي رغبة أو إغراءً، فكان ذلك نجاحاً جديداً حقيقياً لمعسكر الرأسمالية.. وللولايات المتحدة ودعاواها في الدفاع عن العالم الحر وديمقراطياته، وعن الحريات العامة وحقوق الإنسان بامتداد الكون.. ولاستخباراتها في المقدمة، وإن كان لـ(جورباتشوف) بنظرياته الإصلاحية العرجاء، ولـ(يلتسن) بكميات خموره التي كان يستهكلها ليل نهار حتى وهو في الطائرة لزيارة إحدى الدول الصديقة للاتحاد السوفييتي.. اليد الطولى فيما حدث من انهيار سريع غير متوقع لدولة بحجم وقوة الاتحاد السوفييتي..!!
فكان ذلك مدعاة للولايات المتحدة واستخباراتها للانطلاق وبأقصى سرعة للاستيلاء على (التركة) السوفييتية، إن كان في ألمانيا الشرقية أو يوغوسلافيا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي أو غيرهم من دول العالم.. خدمة لحكم (الإمبراطورية) الأمريكية.. التي أصبح قيامها أمراً مفترضاً.. لتكون أقوى وأعظم دولة في العالم، لا يقوى على منافستها أو التصدي لها أو معارضتها أحد.. لكن هذا الاستعجال الأمريكي الذي جرى في تفكيك جمهوريات يوغوسلافيا الاتحادية، وإخضاع دول البلقان.. ورطها في كثير من الحروب غير الشرعية الظالمة، إن كان في الصومال أو في السودان أو أفغانستان.. مع ما صحبها من اعتداءات سافرة على (حريات) الشعوب وانتهاكات مروعة لـ (حقوق الإنسان) فيها.. حتى بدا عقد التسعينات كما لو أنه عقد الحروب والعقوبات الأمريكية، فالدول - غير الصديقة - للولايات المتحدة الأمريكية أو التي لم تخضع لـ(هيمنتها) ووصايتها.. على وجه الدقة، والتي نجت من حروبها لم تنج من عقوباتها.. كـ(كوريا الشمالية) وإيران وفنزويلا.. مما أوغر صدر العالم عليها، وجعله يفكر في (الانتقام) منها على نحو أو آخر.. فكانت (ضربة) الحادي عشر من سبتمبر - في السنة الأولى من حكم الجمهوري (جورج بوش الابن)، الذي تم إعداده على عجل لقيادة الإمبراطورية الأمريكية - التي دمرت برجي التجارة العالمية، وأطراف مبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، ولامست أسوار حديقة البيت الأبيض، والتي جرت من وراء علم الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي استنكرها العالم (إنسانياً).. ورحب بها - في صمت - (سياسياً)!! لتعاود الولايات المتحدة حروبها.. بـ(احتلال) أفغانستان بحثاً عن (الفعلة).. وهي تفتتح لهم معتقلاً رهيباً على الأراضي الكوبية.. هو معتقل (جوانتنامو)، للتحقيق معهم وانتزاع اعترافات - استسلامية - منهم بـ(أبشع) صور التعذيب وأقساها وأخزاها.. والتي لم تخطر على بال سجاني معتقلات (سايبريا) خلف الستار الحديدي السوفييتي أيام (جوزيف ستالين)، أو سجاني المعتقلات النازية.. فيما عرف بمذبحة (الهولوكست).. الذين يضرب بـ(وحشيتهم) المثل الأعلى في جرائم التعذيب والحط من قيمة الإنسان والاستهتار بآدميته وكرامته..!
* * *
لكن يحمد لـ(الكونجرس) الأمريكي - من الشيوخ والنواب - إصراره على إجراء تحقيقات موسعة مفصلة حول ما تناهى إلى علمه من أخبار جرائم التعذيب الوحشية التي ارتكبت في المعتقل باسم الولايات المتحدة أو باسم (استخباراتها المركزية)، كما يحمد لـ(الكونجرس) الأمريكي ورجاله.. إنفاق خمس سنوات من عمره لاستكمال التحقيقات ورصدها بأسماء من ارتكبت بحقهم تلك الجرائم، والتي بلغت آلاف الصفحات ثم جرى اختصارها لـ(500) صفحة.. ليجري نشرها على العالم في التاسع عشر من شهر ديسمبر الماضي عبر شبكات (الإنترنيت).. بينما تكتم على نشرها صحفياً العرب الأمريكان أو المتأمركون، لينجو نشرها على يد الشرفاء من الصحفيين.. فيقع في يدي ملخص - الملخص - من (التقرير)، لتصعقني سطوره.. لدرجة تكذيب ما كنت أقرأه..؟!
فإلى جانب جلد المعتقلين - أو المتهمين - بـ(الكرباج)، وتحطيم أطرافهم بـ(الهراوات)، وضرب رؤوسهم بـ (الحائط) والتهديد بـ(اغتصابهم) والتغذية بـ(الإكراه) من فتحة (الشرج) لمن يُضرب عن الطعام!! وكلها أنواع من التعذيب تبدو رغم فظاعتها عادية.. مقارنة بغيرها مما ابتكرته الاستخبارات الأمريكية وأبدعه محققوها: كـ(الإيهام بالغرق) بسد الفم والأنف وإغمار المتهم بكميات هائلة من الماء، أو الحفر في (صدغ) المتهم بمثقاب كهربائي.. للوصول إلى (مخه) ومعرفة ما بداخله..! أو (الإيهام بالدفن) بتثبيت المتهم في (تابوت) دون حركة يستطيعها وجرح قدمه حتى ينزف على مهل.. فيتصور أنه في طريقه إلى الموت.. وغيره..!!
لكن أسوأ ما في هذا التقرير.. هو أن دولاً عربية - كمصر مبارك - وإسلامية - كباكستان مشرف - كانت تتولى التعذيب بالوكالة أو بالنيابة عن الاستخبارات الأمريكية بعد استلامها للمتهمين.. وتعذيبهم وانتزاع اعترافاتهم وتسجيلها على أقراص مدمجة، ثم إعادتهم عبر تلك الطائرات السوداء المشبوهة التي كانت تقلهم وتقلق الدول التي تمر في سمائها..!!
* * *
كان الملخص.. فاجعة وصاعقة لي، وكان (التقرير) كارثة سياسية للولايات المتحدة وأمجادها.. فقد كشف عنها (ورقة التوت)، وأعاد تقديمها للعالم من دولة راعية للحريات وحقوق الإنسان كما كانت تدعي.. ويصدقها العالم - في سنوات القرن العشرين.. إلى دولة - غير مسبوقة - في تعذيب الإنسان في مطلع الألفية الثالثة..!!
لكن تبقى (الحرية) التي انتزع بها الكونجرس الأمريكي.. حقه في إجراء التحقيق ونشره.. هي (الملاذ) في إنقاذ (أمريكا) لنفسها من أن تكون (دراكولا) العالم، وهي الممر الآمن في مواجهة الخوف من المستقبل.. لمن يؤمنون بها وبأهمية ومركزية دورها في الحياة!!