ربما لا نبالغ إن تصورنا أننا أكثر الشعوب خوضاً وحديثا في أمر الإجازات بأنواعها، وعطلات الراحة، وأولاها السعي من وراء هذه الإجازات إلى تعطيل الدراسة، ومن ثم العمل، فهناك من يتمنى ويتصور ويرجح أن تتوقف الحياة التعليمية لأي سبب حتى وإن كان مناسبة عابرة، قد تقع عند الكثير من الشعوب، ولا يحتاج منا سوى لمحة احتفاء معنوي أو رمزي، ليعود الجميع إلى أعمالهم ومقار تحصيلهم العلمي.
فالمعروف بداهة أن الإجازة تأتي غالبا بعد جهد علمي وعملي وتعليمي شاق، وما هذا التوقف لأيَّام معدودة سوى لالتقاط الأنفاس، وترتيب الذاكرة والوجدان وإراحة البدن قليلا للعودة إلى معترك الحياة بحيوية ونشاط، وهكذا تفهم رسالة الإجازة ومعناها وأسبابها.. إلا أن ما يظهر هو السعي إلى الإجازة وحسب، بل إدخال المجتمع صغاره وكباره في حمى البحث عن أي مصدر للإجازة أو ذريعة تؤدي إليها!
وظاهرة «حُمَّى الإجازات» وإن خف الخوض فيها، وتراجعت نسبة الإشاعة والتكهن حولها إلى حد ما، إلا أن هذا الولع فيها جدير بأن يحظى بأكثر من دراسة علمية معمقة، لعلنا نكتشف بعض هذه الأسباب، ويتم تحديد مواطن الخلل في هذا الدأب والشغف بالإجازات حتى وان كنا صراحة من المجتمعات التي يقل إنتاجها في حقول العلم والعمل والمعرفة، وإلا ما صنفنا بركب العالم الثالث.
فمن يريد أن يتأمل هذه الظاهرة التي حيرت رجال التربية والتعليم والباحثين فلا بد له أن يتوقف عند وسائل هذه المعلومات والإشاعات التي تروج لمثل هذه الإجازات، وربما أبرزها الحالة الإعلامية، وشبه الإعلامية على نحو وسائل التواصل الاجتماعي، وأحاديث المجالس، والتجمعات الأسرية التي تسهم في هذا التجاذب والخوض في تفاصيل واحتمالات منح الإجازة أو تمديدها، والتصريحات بالنفي المبالغ فيه من خلال وسائل مختلفة، فقد يزيد هذا الأمر من أوار هذه التجاذبات والتكهنات بأن هناك إجازة ما، تلوح في الأفق، أو تمديد طارئ لها؟!
أضف إلى ذلك أن هناك سيلا من التعاميم والتصريحات والتوضيحات التي يتم تجاذبها وهي التي تسعى لتبيين بعض الأمور، وتدحض الكثير من الإشاعات بأن هناك إجازة ما ستمنح للطلاب في أي عارض أو سبب محتمل، مع توافر كم هائل وغير مبرر من التعقيبات التي ترد، وما يلحق فيها من تبعات محتملة على الجهات الأخرى، على نحو هيئة الأرصاد التي تعد مثالا حقيقياً حينما تدخل حالة الطقس وكميات الأمطار وكثافة الغبار المتوقعة في هذه المساجلات، وكذلك علم الفلك والتغيرات الكونية على نحو التهيؤ لإجازة ما في حالة كسوف الشمس!
فلم يعد الطقس والمناخ هو المؤثر، بل إن الاقتصاد والسياسة يمكن أن يعززا فرضية وجود إجازة على نحو ما سبق وعايشه الجميع في توقعات الناس ولا سيما الشباب، وهو المتمثل في أمر الإجازة الشهيرة «قمة أوبك» عام 1428هـ، التي ربما دشنت لقيام الكثير من التخرصات والتكهنات والإشاعات بأن هناك إجازة ما لكل مناسبة، أو حدث يقام في أي مدينة من مدننا.
فلا جدل على إجازة الصيف، أو إجازة الربيع أو الشتاء «منتصف» العام، إلا أن هناك من يود إكمال إجازات الفصول الأربعة بإجازة الخريف، وإن لم يحصل فربما نجمع إجازات الأمطار والغبار، وعلى هذا المنوال الذي لا يخدم بناء العقلية التعليمية، والسلوك التربوي الذي يحتاج إلى انضباط وانتظام.
ومن أسباب هذه الظاهرة التي تعكس العزوف عن التعليم كتربية وثقافة وسلوك متبع منذ عقود في مسيرة التعليم ربما يعاد إلى جمود المادة التعليمية وصرامتها، وبعدها عن واقع الحياة، مما تسبب في تسرب الطلاب آنذاك، أما طلاب اليوم فإنهم مولعون بالإجازات وأخبارها وإشاعاتها كمخرج أو دروب هرب من الحالة التعليمية، وتفاصيلها اليومية.