المصيبة في تاريخنا الإسلامي وتراثنا الإنساني أن أبوابا منهما صيغت بنفس بعيد عن الإسلام العظيم فاستحضرت العادات والتقاليد والعروبة والقبائلية والطموحات الشخصية، ولا أدل على ذلك من كثرة أقوال الرجال والمجاهيل والمغامرين والقصاص التي ملأت ذلك التراث وأصبحت مقدسا ترد به النصوص
الشرعية ومنهجا يخالف منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين المهديين من بعده، والمصيبة الأخرى أن كثيرا من حدثاء الأسنان يرون كل ذلك المخالف غير قابل للنقد والتصحيح والنظر، فإن قلت لهم قال رسول الله ردوا عليك بقول عكرمة والعباس، وإن قلت فعل أمير المؤمنين عمر ردوا عليك بفعل محمد الفاتح، وإن قلت هذه الغطرسة لاتتفق مع مقاصد الإسلام السمحة ردوا عليك بأن العزة تأبى ذلك وأصبح الإسلام يعرف بالرجال والصواب أن يعرف الرجال بالإسلام، وأعتقد أن المعضلة الكبرى هي كتابة تراثنا بلغة المنتصرين ونشوة عصور الانتصار الحضاري للأمة في القرون الأربعة الأولى دون انتباه إلى خطورة الكبرياء القومي الذي استعصى معه التفاهم مع العالم من حولنا، وتم علاج مسائل كثيرة منها السبي والجزية والرقيق وأحكام الذمة وكثير من مسائل الحرب وجهاد الطلب وفسطاط الإسلام وفسطاط الكفار بروح تختلف عن روح الإسلام أو على الأقل فيها مبالغات في عشق الذات دون عشق المبادئ والمشروع وتجاوزات في تكوين الامبراطوريات الشخصية وحياة القصور والجواري والإماء والعبيد والشعر الأشقر والذهب الأصفر والسلطات والصلاحيات المطلقة دون نظر لرسالة الإسلام الأصلية، ولذلك دائما يرى العقلاء ضرورة التفريق بين الإسلام والتاريخ الإسلامي وربما كان للأخطاء التي توافرت في تلك الفترات دون تصحيح القدح المعلى في مسيرة تاريخ الأمة فيما بعد وما ندفعه من مديونيات وفواتير باهضة الثمن دليل على تلك الحال وذلك المآل بكل أسف ..نعم، لم تقتصر أقوال الرجال على تشويه مشاهد الحياة العامة ومافيها من معاملات تخضع للمصلحة المعتبرة شرعا ومعاملة المسلمين فيما بينهم حتى تم تطبيق عقائد الولاء والبراء بين أهل القبلة بنرجسية مخيفة فاستباحوا ضروراتهم الخمس وهي حرام في حرام فقتلوا على الهوية وصلبوا على المسمى وتوسعوا في قواعد سد الذرائع القائمة على آراء الرجال فضيقوا على المسلمين كل مباح بل تجاوزوا إلى معاملة الآخرين بطريقة تصد عن سبيل الله حينما يستحضرون تفسيرات عزة النفس وما يقابلها من ذلة الآخر حتى وصل الأمر ببعض المسلمين أن يظهروا بطريقة غير حضارية ولا تليق بالإسلام وكلها بناء على أقوال لرجال غير معصومين وتتعارض مع السنة الواردة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدليل على ذلك بعض أحكام أهل الذمة ممن هم في ظل الإسلام وتحت ولاية المسلمين، والرسول صلىلله عليه وسلم حذر من ظلمهم وأذيتهم والاعتداء عليهم وبين أنه حجيج من يفعل ذلك يوم القيامة، ثم نقف على تفسيرات خطيرة مثل ما نقله البغوي لأقوال بعض المفسرين قوله تعالى {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }فقال :» أذلاء مقهورون. قال عكرمة: يعطون الجزية عن قيام والقابض جالس. وعن ابن عباس قال: تُؤْخَذ منه ويُوطأ عنقه. وقال الكلبي: إذا أعطى صفع في قفاه. وقيل: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وقيل: يُلَبَّبُ ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف» بينما فسر الإمام الشافعي رحمه الله الصغار بأنه جريان أحكام الإسلام عليهم، وهو الصحيح فيما يظهر متفقا مع روح الإسلام ومنهج النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم مع البشر دون ضرب وجذب عنق وكسر رقبة، قال القرافى: (إن عَقْد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذمّةِ الله تعالى، وذمّةِ رسوله)، وهذا التفسير يتعارض مع قصصه صلى الله عليه وسلم الصحيحة مع اليهود في المدينة وكفار قريش في مكة والنصارى في نجران واليمن والحبشة ومافهمه خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم أجمعين وعقلاء الأمة على مر عصورها... صدقا، حينما قبل الإسلام الجزية من غير المسلمين كان يقصد مشاركتهم أعضاء فاعلين في المجتمع المسلم الذي يدفع الزكاة أيضا التي لاتسقط عن مسلم في كل الظروف وهم يدفعون الجزية التي تسقط في بعض الأحيان وهذا من عدل الإسلام وسماحته، والنتيجة النهائية سيدخل هؤلاء الإسلام لأنه دين مقنع بشرط أن يكون تطبيقه من قبل المسلمين على منهج النبوة التي أقرت أن الدين المعاملة، ويمكن أن يقاس اليوم هذا على كثير من مشاهد الحياة اليوم والتي لا تقبل التضييق على الناس في الطرقات بحجة أنهم غير مسلمين ولاضربهم على القفا ولا كسر أعناقهم وماورد من نصوص في هذا فيمكن أن تكون لها مناسباتها الخاصة وليس هناك أجمل من شرح العلامة ابن عثيمين لهذا. كيف يستقيم هذا التفسير مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة حينما فطنت لقول اليهود لرسول الله :السأم عليكم، فسبتهم، فقال: ياعائشة إن الله لا يحب الفحش والتفحش، بل إن أمير المؤمنين عمر حينما رأى ذلك الذمي القبطي مظلوما بعدما صفعه ابن عمرو بن العاص في مصر أنصفه وقال:» اضرب ابن الأكرمين، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»، لم يفكر أمير المؤمنين عمر أن هذا ذمي يجب أن يصفع عىقفاه ويوطأ عنقه وهو يدفع الجزية فما بالك بموقف في سباق، بل استحضر عظمة الإسلام وعدل المنهج النبوي، وكذلك حينما وجد شيخا ذميا وكان أعمى طاعنا في السن على باب يشحذ فأخذه بيده إلى منزله وأطعمه وسقاه وتلطف معه وقال عبارته المشهورة، لم يفكر أمير المؤمنين بضرب هذا الذمي على قفاه ولم يبادر إلى أن يطأ عنقه وهو يردد بعزة وشموخ وكبرياء : هكذا يريد الإسلام وهكذا تعلمنا من الرسول، ولم يجبره على دفع الجزية بل أسقطها عنه وعن أمثاله رحمة بالناس، لم يفكر بذلك أمير المؤمنين عمر وهو يقول :يومان يؤرقان عمر يوم الحديبية ويوم قصته مع اليهودية، واليهودية لم يضربها على قفاها ولم يشد شعرها ولم يصفعها على خدها بل إنه رق لحالها فدعاها إلى الإسلام وتلطف معها في وقت ظن أمير المؤمنين أنه استغل ظرفها الإنساني وهو حاجتها لعلاج ابنها المريض وفسر ذلك بأنه من الإكراه في الدين وهو يقدم لها المساعدة من بيت مال المسلمين بعدما شكت له فقرها ومرض ابنها. لم يفكر أمير المؤمنين عمر بزيادة الأتباع والأراضي والأموال، لم يفكر في قهر البشر وشرعنة الاستبداد ولذلك لما جاء أمير المؤمنين عمر مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا، والله ما أخذنا إلا عفواً صفواً. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني.
صدقا، كيف كان لنا أن نتوقع من أهل الكتاب الدخول في دين الله أفواجاً أو حتى فُرادا..؟ وتراثنا مملوء بشروط تأمرهم بأن لا يعلَموا أولادهم القرآن ولايتكلموا العربية، وأن يجزَوا مقادم رؤوسهم، ويشدَوا الزنانير، وأن لا يركبوا على السروج، ويركبوا الدواب بالمقلوب، وأن نضع الخراج على الأراضين، والجزية على جماجم أهل الذمة فيما فتح من البلدان، وكل ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم بل فعل نقيضه من الرحمة واللين بالمخالفين والعفو عنهم يوم مكة، بل إن القرآن فرض سهما من الزكاة للمؤلفة قلوبهم وهم من الكفار الذين يرجى إسلامهم، فكيف يتفق ذلك مع معاملة من هم في الذمة وتحت سلطة الدولة والخليفة بهذه القسوة، وقد قال تعالى :{وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}. كيف تنجح الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس وهم يقرءون صياغة تفسير البغوي مثلا -وما أكثر مثل ذلك في كتبنا وتراثنا وتاريخنا - في التعامل مع بعضنا ومع الآخرين كاليهود والنصارى وبقية الأمم. وكيف يستطيع الطالب في كلياتنا الشرعية أن يكون منارة هدى، ولبنة بناء، وداعية على منهج النبوة وهو يستقي الفقه من كتاب (أحتفظ باسمه) فيه :»ولا يجوز تصديرهم -يقصد أهل الذمة- في المجالس ولا القيام لهم ولا بداءتهم بالسلام» وقد سوّى المحقق في الحاشية بين اليهود والنصارى والرافضة في تعليقه على كلام المؤلف في صورة تتناقض تماما مع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الناس على مختلف أجناسهم وطوائفهم وقبائلهم ومع معطيات الوطنية ومكونات البلاد واحترام آدمية البشر، فالرسول احترم مشركا وهو أبو سفيان وفرش له عباءته فأسلم واحترم جنازة يهودي فقام لها فيما رواه البخاري في كتاب الجنائز عن جابر بن عبدالله،، فقال (صلى الله عليه وسلم): (أليست نفسا)؟ كيف يتفق ما ورد في تراثنا من غلظة وغطرسة مع ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كان غلامٌ يهودي يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمرض فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: (أسلم)، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلَمَ، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه من النار)»، وهذا الغلام لو لم يجد من رسول الله الاحترام والرّحمة والشفقة والتواضع ولين الجانب والإحسان إلى الآخرين لما أسلم ولما قال له أبوه أطع أبا القاسم، وناداه بالكنية المحببة إليهويلاحظ أن اليهودي كان يخدم في بيت النبوة ويدخل في البيت الشريف دون شيطنة واعتراض، لو لم يجدوا منه الصدق والرسالة والإنسانية لما كان موقف مخيريق اليهودي يوم أحد.
كيف يتفق هذا الفعل مع مافعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قدم وفد نصارى نجران إليه فأنزلهم في خير بقاع الأرض - عند المسلمين - وهو المسجد. وقام (صلى الله عليه وسلم) بنفسه بخدمتهم والقيام على ضيافتهم، وسمح لهم أن يصلوا في مسجده، مع أن صلاتهم فيها ما ينافي ما جاء به، واستقبل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم هديةً من المقوقس في مصر، وهي الجارية التي أنجبت إبراهيمَ ولد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ثمَّ وقف فقال: «استوصوا بالقـبـط خيرا، فإنَّ لي فيهم نسبا وصهرا».. إن التراث الإسلامي- وليس الإسلام- مليء بمثل هذه الإساءات التي لا تليق بدين رباني عظيم، وهي آراء رجال ووجهات نظر قد تكون حقيقة وقد تكون مكذوبة عليهم من قبل من كتبوا التاريخ وبثوا سمومهم لخلف لا يفهم أن التاريخ لا يرحم وذلك حينما نجد أن أقوال الرجال ووجهات النظر الخاصة في تاريخنا مقدسة لا تقبل النقد والإصلاح وإعادة النظر مما عطل نهوض أمتنا وأبعدها عن حل قضاياها، وهذه المكابرة التاريخية للمراجعة والتنقية والتصحيح أفقدتنا منذ عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية والدولة العباسية والدويلات الإسلامية وعصور المماليك والسلاجقة والعثمانيين وكل الحكام المغامرين وحتى هذا العصر التوازن والسيطرة والتفاهم بينما نجد أن النقد الذاتي هو أول شرط في مراجعات الأمم كلها لتنهض بعد الهزيمة والتقهقر، ولا أدل على ذلك من مراجعات الروس واليابانيين والألمان وغيرهم بعد الحروب الكونية ... والله من وراء القصد.