| |
أَو بعد قرن من التوحيد؟ العصبية القبلية كاحتلال في معادلة الدولة د. صالح بن سبعان(*)
|
|
يبدو ملائماً للغاية السؤال حول توقيت صدور (العصبية القبلية) من المنظور الإسلامي في هذا الوقت تحديداً؛ وما يدعو إلى التساؤل أن الدكتور خالد الجريسي أوضح في مقدمته بأن الغيرة (على مجتمعاتنا الإسلامية) التي أفرز التعصب القبلي في بعضها كثيراً من الأمراض والعلل - من فرقة وتنافر وعنوسة - رغبةً منه في إصلاح الزلل ولمِّ الشمل ودرء الفتنة قدر الطاقة، كانت هي الدوافع التي دفعته لكتابة مؤلفه هذا. الارتداد القبلي أي أنه لم يكتبه تحت ضغط وقائع يومية أصبحت هاجساً مؤرقاً لكل مراقب وحادب على مصلحة هذا الوطن تحديداً إلا أن الكتاب يجيء في موعده تماماً، متصدياً لظواهر أخذت تطفو على سطح حياتنا ونطالع مستجداتها وتداعياتها في الصحف يومياً. فقبل أسبوعين - على وجه التقريب - تصدى الكاتب الفاضل سليمان الفليح في هذه الصحيفة لظاهرة تمدد وانتشار الحس القبلي وتعميق الانتماء القبلي بصورة صار ينافس فيها الشعور بالانتماء الوطني، بديلاً عنه. وقد حذر من الانحراف بظاهرتي (مزايين) الإبل للقبائل والقنوات الفضائية المخصصة للشعر الشعبي، إذ صارتا في أقوى وسائل تعميق القبلية الضيقة على حساب المواطنة الشاملة. حيث دأب بعض الشباب على إرسال مسجات على هذه القنوات يثيرون من خلالها النعرات القبلية ويزايدون على غيرهم من أبناء القبائل الأخرى، بل يتلفظون بألفاظ نابية تحط من قيمة الآخرين (الجزيرة العدد 12481). وقد تنبه من قبل الدكتور عبدالله الغذامي إلى هذه الردة القبلية و هذا الارتداد القبلي في (حكاية الحداثة) حيث أشار إلى أن هناك عودة قوية (لنظام التآزر القبلي) بعد أن ضعف دور القبيلة في المدن والمؤسسات وعاد الحس القبلي برمزية عالية، مضادة لكل تغيير حداثي وحضاري. (145 حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية). والغذامي والفليح ليسا وحدهما من حاول قرع الأجراس أو صافرات الإنذار محذراً من هذا التشقق والتصدع الذي أخذ يتمدد وينتشر مهدداً النسيج الاجتماعي، بتصدعه، فكثيرون فيما أعلم كتبوا عن هذا. مَنْ يقرع الأجراس؟ إلا أن عدم التصدي بالقدر الكافي والملائم جعلها تتخذ مناحي أخطر. وما قصة الزوجة التي حكم بتطليقها من زوجها إلا واحدة من هذه التجليات لمخاطر ومساوئ هذه الظاهرة، لأن الحكم في هذه القضية انتصر للمنطق القبلي الذي جاء الإسلام لمحوه وإزالته، وتثبيت الرابطة الإسلامية محله. ثم إنه انتصر لمنطق الفرقة والشتات.. أو التشتيت وقطع روابط الرحم وفصم عرى الأسر وتفكيكها، على منطق التراحم والتلاحم والوصل متسبباً في حرمان الأطفال من والديهم ومن حقهم في النشأة في بيت مستقر الأركان يضم والديهم معاً. والواقعة في مجملها إنما تؤكد سيطرة المنطق القبلي وغلبته على ما عداه، ولم يضف حكم القضاء سوى تأكيد سيادة المبدأ القبلي في مجتمعاتنا، رغم ما بذله مؤسس الدولة وولاة الأمر بعده من جهود لترسيخ رابطتي الدين والمواطنة بشتى الطرق ومن خلال العديد من القرارات والسياسات والقوانين. ومن هنا يكتسب كتاب الدكتور خالد الجريسي أهميته في هذا الوقت تحديداً، وفي ظل الارتداد القبلي الذي يشهده مجتمعنا، وهو بهذه المثابة يعتبر رافداً مهماً وقيماً من التصدي لهذه الظاهرة، علنا نتدارك تبعات هذا التوجه القبلي الذي يجافي توجهنا الديني ويناقضه. فلنأخذ حذرنا الآن وإذا كنا نتحدث اليوم ونكثر الحديث عن قفزة حضارية أخرى تتهيأ لها المملكة في سلسلة قفزاتها الحضارية التي بدأت في حياة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - التي دشنها بتوحيد كيانات المملكة المتناثرة وتأسيس الدولة السعودية الحديثة، وسار في تحديثها وتطويرها أبناؤه من بعده ملك أثر ملك. فإن من أولى اشتراطات الدولة المتماسكة القوية والمستقرة هي توحيد الانتماء، بحيث يكون الانتماء للوطن هو الشرط الأول الذي لا يعلوه شرط، ثم تأتي بعده الشروط الأخرى، التي تختصر في بذل كل ما بوسع أي مواطن بذله من جهد وفكر وعمل للارتقاء بهذا الوطن خاصة ونحن نشهد اليوم كيف يمكن أن تتمزق الأوطان ويتقاتل أبناؤها تحت اللافتات المذهبية والطائفية والعرقية المسيَّسة وتكاد تذهب ريحها. لذا فإن هذه النعرات القبلية التي بدأت تطل برأسها بين البعض يجب أن تُجتث من جذورها. فنحن لم نؤدِ بعد وتجتث اجتثاثاً مبرماً بذور فتنة الإرهاب التكفيري الضال، ولسنا في حاجة إلى مزيد فتن قبلية قد تتطور وتتكاثر، ويصعب اجتثاثها. ولنأخذ حذرنا جيداً، فقد اجتاحت هذه النعرات والعصبيات القبلية وغزت حتى المؤسسات، متجاوزةً التراشق والتهاتر اللفظي. وقد استعرض المؤلف تفاصيل القيم السلوكية العرقية من خلال نموذجين اتخذ منهما المجتمع اليمني والمجتمع النجدي مثالين وقد فعل خيراً حين أخضع هذه الظاهرة للاختبار على ضوء الإسلام عقيدةً وشرعاً، ووضعها في ميزانه فكشف وعرى مدى تناقضاها مع ما أنزل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومدى مفارقتها لكل ما أرسى النبي صلى الله عليه وسلم من قيم أخلاقية. بل كشف بأنها - أي العصبية القبلية - ارتداد إلى جاهلية كان الناس متفرقين فوحدهم الإسلام. والواقع - قديماً وحديثاً - أن النزعة القبلية هي ارتداد إلى حالة الفوضى، وعودة بالمجتمعات إلى مرحلة ما قبل تكوِّن الأمة والدولة، وأن انتشارها في دولة قائمة، وفي أمة متوحدة، إنما يهدد المجتمع بالتمزق . ولو أمعنا النظر عميقاً فإننا سنجد أن خطر تمدد وانتشار وذيوع ظاهرة العصبية القبلية، يفوق في تهديده خطر التعصب الديني وما يفرزه من إرهاب. لأن التعصب شذوذ في الدين، وقليل من الناس معرضون لعدوى التعصب والغلو في الدين، لأن الإسلام هو دين الفطرة، والخالق سبحانه وتعالى فطر الإنسان على التوسط، ولم يفطره لا على الإفراط ولا على التفريط، فهما حالتان شاذتان يُصاب بهما الإنسان في حال اختلال ميزان حياته. أما العصبية القبلية فتخاطب في الإنسان غرائزه الاجتماعية، وتشده إلى مجموعته بوثاق يعطيه وهم الأمن والأمان في حضن جماعته الضيقة. وإذا كان هذا يبدو صحيحاً في حال المجتمعات البدائية التي يشيع بين مجموعاتها السلب والغزو والاسترقاق، فإنه في ظل وجود دولة تضم مختلف هذه المجموعات وتتكفل بحماية وأمن واستقرار كل المجموعات وتطبق قوانينها على الكل، وتعمل على تنمية كل المناطق التي داخل حدودها ومسؤولياتها، وتوفر فرص العيش الكريم والعدل والمساواة، فإن الانتماء القبلي يصبح حينئذٍ عامل تخريب لكيان الدولة، ومهدداً لاستقرار ووحدة وأمن مواطنيها، لذا وجبت محاربته بكل قوة، وتسخير نظم وقوانين الدولة لتقليص نفوذه لأدنى حدوده. السؤال الغائب وإذا كان ثمة من ملاحظة على الكتاب، غير الإشادة بجهد مؤلفه، فهي أنه أغفل معالجة مسألة مهمة، وهي تحليل بنية المجتمع القبلي، لأن هذا التحليل هو الذي سيقود خطواتنا في مراحله التحليلية التالية لنعرف ما هي العوامل التي تساعد هذا الحس القبلي على النمو والازدهار في ظل دولة مستقرة ومتماسكة، وما الذي يساعد على عودته إلى الظهور بعد تجاوزه وتوحيد كافة مكوناته في كيان الدولة الأكبر والأوسع؟. السؤالان: كيف ولماذا؟ يغيبان عن هذا الكتاب تماماً، فهما يقعان في محيط أو فضاء (اللامفكر) فيه، مما يصنف الكتاب في خانة الأدبيات الدعوية. لذا فهو من هذه الزاوية وفي هذه الحدود يعتبر إضافة لا غنى عنها في المكتبة الدعوية.
* أكاديمي وكاتب سعودي dr-binsabaan@hotmail
|
|
|
| |
|