| |
كنت في وداعه محمد بن نايف العتيبي
|
|
في مثل هذه الأيام من العام المنصرم.. كنت في وداعه وأنا أضم يديه الكريمتين.. كان الموعد قد حان لرحلة لا سبيل لتأخير أو تأجيل موعدها، لم يكن أمامي حينذاك إلا أن أرمق وجهه المشع نوراً كآخر فرصة للنظر لأن يرتوي بتفاصيل ملامحه قبل أن يحول الفراق بيننا، كان يومها قد غادر المنزل لبرهة، بعد أن لملم كل أغراضه بما يشير إلى أنه ينوي السفر بعيداً، تبعته بالأقدام دون أن أدري أنني أسير إلى حيث كان يرتقبه القدر، أسقط في يدي حينها وأنا أجده مضرجاً بدمائه وقد تجمع الفضوليون حوله، دون أن يمد أحدهم يد العون والمساعدة له، كان ذلك الطريق يستخدمه بعض المراهقين مضماراً لسباق السيارات، ولا يعيرون المارة أي اهتمام، لم يكن هؤلاء الصبية إلا إفرازات رغد العيش فأصبح أولئك أدوات خطرة تفتك بالمارة على مختلف الأعمار، أمام هذا المنظر المهول لم يكن أمامي إلا أن أمد يدي لأحمله بين ذراعي الهزيلين، وبداخلي يتصارع أمران هما (الأمل والألم)، أمل في أن يعيش وألم على ما آل إليه حال شيخ كبير. تنطلق بنا السيارة سريعاً وعيناي تحدقان به وهو يعاني ألماً غير معلن، ولساني يدعو الله عز وجل أن يلطف بحاله ويخفف مصابه، وما هي إلا دقائق وندلف من بوابة المستشفى، ليتسابق الأطباء والممرضون لتقديم ما بوسعهم لإنقاذ حياته التي لم يكن لهم من حيلة لإنقاذها إلا ما شاء الله.. يمر الوقت وتحتبس الأنفاس أكثر فأكثر فيعلن الحق كلمته إنه (الموت)، ويرحل تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه، تاركاً هذه الحياة بما رحبت، شعرت حينها بأنني غريب في بيتي، كل ما في داخلي يعبر عن الغربة ويعيش الوحدة، لم تكن إنارة المنزل بما حملت من طاقة أن تعيد نوراً افتقدته للتو، أجلس بغرفته وكأنها تشاركني عليه حزناً، بل أشعر ساعتها أن كل زاوية من زواياها تبكي مثلي لفقدانه، أجول بناظري داخل البيت وفي الطرقات المحيطة به فيرتد وهو لا يرى ما يبهجه، لم يعد المكان هو المكان ولا زمان هو الزمان، لقد فقدت في ثوان معدودات سنداً كان لي طوال رحلة العمر، لم يعد هناك من يبادلني النصح والمشورة والتوجيه، فقد كان نعم الأب والصديق في آن واحد، لقد رحل حقاً من يشاركني أتراحي وأفراحي، فأرى السعادة على محياه حينما أكون سعيداً، وأرى التأثر عليه حينما أكون عكس ذلك، لقد أيقنت منذ ذلك اليوم أن السعادة لا تدوم، وأن الحياة لا تعادل جناح بعوضة في عيون من يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن هذه الحياة ما هي إلا محطة قصيرة يغادرها الجميع بما حملوا من متاع، وأي متاع ذلك يا ترى، أسأل الله أن نكون ممن متاعهم خير العمل، وأن يتغمدني الله وإخواني المسلمين بواسع رحمته، وأن يرحم والدي ويسكنه فسيح جناته، وأن يجمعنا الله به في جنات النعيم.
|
|
|
| |
|