| |
المخالفون والمختلفون بين الضلوع .. والاختلاق..!! (2-2) د. حسن بن فهد الهويمل
|
|
وإذ شاعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهرة (النفاق)، فقد ظهرت في العصر العباسي ظاهرة (الزندقة) ومعولها (المانوية)، ومصدرها العنصر الفارسي، و(الشعوبيون) منهم خاصة، وتجلّت في العصر الحديث عدّة ظواهر سنأتي على بعضها. ولو عدنا إلى الظواهر الأولى لوجدنا (النفاق) قد كشفه القرآن الكريم، وحذَّر من مزيد الكشف بإنزال سورة تحدِّد الأسماء والأفعال، والمنافقون ضالعون فيه، وليس النفاق اتهاماً مختلقاً لهدف التوهين. أمّا (الزندقة) فهي كلمة فارسية معربة، يعدها قوم نحلة، وتسمَّى ب(الزنديقية)، وليست ظاهرة فلسفية، ومن ثم لم يهتم بها الممعجمون لمصطلحات الفلسفة، ويراها آخرون ردّة، وقد سبقتها صفتا (الملحد) و(الدهري)، بدأت دلالتها بإنكار الإله، ثم اتسعت الدلالة لتشمل كلَّ من تأثّر بالفرس في عاداتهم أو أسرف في العبث والمجون، وهنا مكمن الخطورة، لقد بلغت (الزندقة) ذروتها زمن (المهدي 158 - 169ه)، حيث تعقَّبهم، وأنشأ (ديوان الزندقة) و(سجن الزنادقة)، فيما أمدتها بالغي وعزّزتها ظاهرة (الشعوبية)، وفجرها (علم الكلام)، أمّا المروِّجون لها فالمجان من الأدباء والشعراء، ك(ابن المقفع) و(حماد عُجْرد) من الأدباء، و(بشار) و(صالح بن عبد القدوس) من الشعراء، وقد قتل الأربعة بسببها، كما قتل خلق كثير، وحقق مع آخرين، وأفرج عنهم، وهي عند الأدباء أشبه شيء ب(الوجودية)، المغرقة بالعبثية والغثيان. والمتمرّسون من الزنادقة كأساطين الاستغراب في العصر الحديث، يمثِّلون (العمالة) في أبشع صورها، فمن الزنادقة (يونس بن أبي فروة) الذي ألّف كتاباً في مثالب العرب وعيوب الإسلام، وأهداه إلى ملك (الروم) فأجزل له الثمن، وفي حاضرنا من ينال من الإسلام، ويتقرّب به إلى الغرب. ولقد قيل إنّ (الزندقة) أصبحت وسيلة للتخلُّص من المعارضين، ودافع عن هذا الاتهام كثير من المؤرِّخين والعلماء، ولكنها كانت الدافع لقتل المئات من المتهمين، وما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من المنافقين، مع معرفته بهم، وليس الإحجام من الرسول صلى الله عليه وسلم حجة لمن دعا إلى ترك الناس يعتنقون ما يشاؤون من العقائد، وينالون ما يشاؤون من الثوابت، لأنّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم مقدم على فعله عند الأصوليين. ولسنا بصدد تحرير القضايا وأحكامها، ولكننا أردنا الإشارة إلى أنّ لكلِّ زمان ظواهره التي طغت على ما سواها، وظاهرة (الردّة) أوقعت العلماء في خلاف كبير، حول تحديد المفهوم، وأسلوب المواجهة، وحدّ الردّة، وكلّ ذلك متروك لفقهاء الأُمّة، واستدعاؤنا له لمجرد أن يعرف الخائضون خطورة المواقف وتبادل الاتهامات، وأهمية التأنِّي والمراجعة، وإذا كان ما سلف من عصور يتهم فيها المخالف ب(الزندقة)، فإنّ مخالف العصر الحديث حين تعيا به الحيل يتهم ب(الأصولية) بوصفها من حواضن الإرهاب أو ب(العلمانية) الشاملة، أو ب(العمالة) لدولة أجنبية أو عدوّة. وإذ لا نستبعد ظاهرة (الزندقة)، وبخاصة عند المجان والشعوبيين، ولا نستبعد (العلمنة) و(العمالة) عند بعض الكتّاب والمفكرين، فإنّ ذلك لا يكون على إطلاقه، ولا تجوز المجازفة فيه، ولا التراشق به عبر وسائل الإعلام. ومن حق المؤسسات المختصة أن تتعقّب المخالف لتعظه أو تناظره أو تأطره، وفي الوقت نفسه تسعى لحماية كلِّ من تعرّض للنَّيل، والأخذ على يد كلِّ من عرَّض نفسه لقالة السوء، ولا يكون شيء من ذلك مصادراً للحرية. لقد خفَّت كلمات الاتهام على الألسنة، حتى أصبح كلُّ كاتب أو مفكِّر مشروع (أصولية) أو (عولمة) أو (علمنة) أو (عمالة) لدولة أجنبية، ولو أنّ المتلقِّي صدَّق كلَّ ما يقال عن حملة الأقلام، لما بقي على ظهر السفينة من كاتب إلاّ هو متعولم أو متعلمن أو عميل ضالع في العمالة. وفي المقابل نجد من يتهم بعض المفكرين الإسلاميين المتوازنين ب(الأصولية) و(التطرُّف) و(الإرهاب)، ولا يتردد في استعداء السلطة، ومشهدٌ تلك صفته بحاجة إلى إعادة النظر فيه، لضبط إيقاعه والتوفيق بين أطرافه، ولو أنّ المتلقِّي كذَّب كلَّ ما يتداوله القوم لكان من خراف بني يعرب، يسمِّن نفسه لمدية العدوِّ المتربص، وواجب كل متابع أن يأخذ حذره من مجازفة القول ومن عفن الضمائر. وإذ نقطع بوجود النواقض والنواقص فإنّ من الاستبراء الاستعانة بمن يملك القدرة على الرَّصد الدقيق والمتابعة الذكية. ومهما أبدينا التحفُّظ والاحتراس، فإنّ لكلِّ حقبة من التاريخ الفكري ظواهرها التي يحيل إليها خطاب المرحلة، ويستنجد بها لتوهين الطرف المنازع، ولا تكون تلك الظواهر متساوية من حيث الصحة أو التطابق بين السمة والموسوم، ذلك أنّ لكلِّ حقبة نصيبها من الخيرية والمصداقية، فالمجتمع المدني في العهد النبوي كانت ظاهرة (النفاق)، حتى لقد خشى (عمر بن الخطاب)، أن يكون معدوداً منهم، الأمر الذي اضطره أن يسأل (حذيفة بن اليمان)، وفي العصور اللاحقة كانت ظاهرة (الزندقة)، ثم كانت (الماسونية) و(العلمانية) و(الحداثوية) و(العمالة)، وبلغت الدرك الأسفل ب(التكفير)، وربطه بالتصفية الجسدية، والمصير من تكفير القول إلى تكفير المعيَّن، وعدم التفريق بين التكفيريين. و(العمالة) و(الرجعية) و(الإمبريالية) كانت لغة الثوريين من الساسة المبتدئين، يردِّدونها عبر خطبهم وإعلامهم المقروء والمسموع، وما كانت تلك الاتهامات موطن اهتمام ولا عناية من الكافة، لأنّ الخطاب الثوري وقع في التهريج، وكشف عن سمة الزيف عنده. والخطورة أنّ (العمالة) ك(الأصولية) مع تحفُّظنا على مصطلح (الأصولية)، أعادت نفسها عبر الخطاب الفكري، ولولا التوسع فيها والتهاون في تداولها لكان لها شيء من الصحة، ولكن التصنيف أصبح الملاذ لكلِّ عاجز عن صد الخصوم بالحجة البالغة، ومهما تحفّظنا على المجازفات وردود الأفعال فإنّ المشاهد كافة تعيش حراكاً لا يهدأ، ولا يبعث على التفاؤل والاطمئنان، وكلُّ خطاب يكاد يجني على أهله. إنّ الإيقاع السريع الملاحق، يكاد يحمل الحليم على ممارسة السفاهة، ومهما عذرنا أو بررنا فإنّ الاتهام ب(العمالة) أو (العلمنة) أمر خطير لا يجوز التهاون فيه، حتى وإن شهد الثقات بما علموا، وتحفُّظنا لا يعني الاستبعاد، فالذين ينزعون من بئر المبادئ الغربية لا يتحرّجون من الركون إلى ذويها، لريادة المقدمة وحماية الساقة، وكأني بالمستعين يعد المعين سيارة أجرة، تصل به إلى مبتغاه، فالغاية عنده تبرِّر الوسيلة، والسياسة (الميكافيلية) فتحت باب الرخص على مصراعيه، ولقد قالها من قبل من جعل مصلحة المبدأ فوق كلِّ شيء، ومن أجله أباح لنفسه التحالف مع الشيطان، ولقد قال شاعرهم من قبل: (هبوا لي دينا يجمع الشمل بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم) أو كما قال، فض الله فاه، وأخرس لسانه. وأنا هنا لا اقطع بنفي الاتهامات متى كانت موثقة، وليست ناتج ردّة فعل أو تصفية حسابات، بيْد أنّ اللجوء إليها بدافع الاختلاف حول وجهات النظر مؤشر إفلاس، والسكوت عليها بعد ثباتها شيطنة خرساء، وخير من التعيين والتشخيص التعميم، وأصحاب المواقف يعفون عن المجازفة بالاتهام، ولا تأخذهم بالحق لومة لائم، وحفظ التوازن بين تسويق الإشاعة ونشر الحق، يحتاج إلى مزيد من الزكاء والذكاء، فكم من ذكي لا يزكو، وكم من زكي تجرفه الغفلة، والصادق غير الصدوق في عرف المحدثين. والزمن المسكون بالمسكنة والانكسار يحتاج إلى خطاب هادئ، يؤلف بين القلوب، ويطرد الوحشة، ويفتح أبواب الأمل والتفاؤل، ويلامس القضايا برفق، مثلما يلامس الطبيب مواطن الألم، على حد (فكأنه آسٍ يجس مريضاً)، والعاقل المجرب والخبير المتابع يعرفان الأمور بمؤشراتها ويعرفان الأناسي من لحن القول. إنّ هناك عملاء يُعرفون بسيماهم، وخطاؤون يقعون في السوء، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا، وخطأ التفكير أهون من خطيئة التواطؤ. وتاريخ الملل والنحل يكشف عن طوائف قصد بها إتيان بناء الإسلام من القواعد، وعن طوائف أبعدت النجعة في التأويل، واختلاف المتأولين أهون من اختلاف المرجعيات، ولكلِّ طائفة أسلوب مواجهتها، والمشكلة في وضع المخالفين في سلة واحدة، ومواجهتهم بأسلوب واحد، وحسم الفتن في تعرية الأصول، لا في هش الفروع بالعصيِّ، فالشجرة الخبيثة لا يكفي فيها الخمط، وإنّما لا بدّ من اجتثاثها من أصولها. والتحذير من التسرُّع والتساهل في تصنيف المخالف أو الحكم عليه، لا يعني مطلق السكوت، وتمكين الأدعياء من رقاب القضايا المصيريّة، إنّ الواقع يوجه إلى الخيارات الممكنة، ولكل من الضعف والقوة خطابهما المناسب. ومع التحفُّظ فإنّ من المفكرين من يمارس العمالة، وهو يعرف أنّها من القاذورات، التي يجب الاستتار فيها، ومن ثم لا يبدي للمشاهد ممارساته الموبقة، ومنهم من يجاهر بالعمالة، ويراها حقاً مشروعاً، إذ هي مجرّد توظيف للإمكانيات واستثمار لها، ولقد أعلنها (روجيه جارودي)، وذلك حين عرض إمكانياته للدفاع عن أي نحلة، وقد يمارسها البعض من خلال مؤسسة فكرية، كما اتهم صاحب (مؤسسة ابن خلدون) وحوكم، وقد يباهي بها من لا يقدِّر الأشياء قدرها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). والمشاهد المعاشة تكاد تنفلت أمورها، وتختلط فيها الأصوات والأوراق. ويقيني أنّ الوقت قد حان لتدارك هذه الفوضى الفكرية، وأطرها على الحق، فالناس لا يصلحون فوضى لا سرات لهم، وفي كلِّ مرحلة تقترب الخطابات من الهاوية، ويخاف العقلاء من انفلات الأمور، ويأتي تأويل {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}. ولما اتسع الخرق على الراقع في بعض الفترات التاريخية، استنجد بعض العلماء والمفكرين ب(المنطق) ظناً منهم أنّه الأقوى في حسم الاختلاف، ولقد تساءل كثير منهم عما إذا كان بالإمكان اتفاق العقول في ظل التوصيل عبر (المنطق) على الحد الصحيح والقياس البرهاني، بوصف الحد موصلاً إلى مدرجة العلم، والقياس البرهاني منتهياً بالفعل إلى غايته. ولقد برهن (المنطق) عن ثبات الاختلاف لا عن إمكان الاتفاق، والمغرمون بالمنطق يراهنون على أنّه العاصم من الخطأ فيما يعتقده الإنسان، ويؤكدون على ضرورته لعصمة الفكر من الخطأ، وحين أعيتهم الحيل فرقوا بين الكليات والجزئيات، ورهان المناطقة باء بالفشل، فالعقل لا يخضع للمنطق، ولكنه يخضعه لمراده، فهو آلة، وليس مقرراً، وإذ يكون مجموعة قواعد للاستدلال: فمن أنشأها؟ إنّه العقل المرتهن للحواس والحدس، ونهاية إقدام العقول عقال، وغاية ما نريد في ظل هذا الصخب، أن نفرق بين المخالفين والمختلفين، وبين اتهام المعين، والحكم على مطلق القول، والأصوليون لا يربطون بين القول والقائل في الحكم حتى تتم المواجهة، ويستبعد الجهل والتأوُّل، وخير الأمور الوسط.
|
|
|
| |
|