كان الحديث في الحلقة السابقة مركّزاً على الديمقراطية وتطبيقها في المجتمعات التي تبنَّتها؛ سواء داخل تلك المجتمعات أو في تعاملها مع مجتمعات خارجها. وفي هذه الحلقة سيكون الحديث عن الإرهاب.
إنّ الدول القويّة في العالم - وعلى رأسها أمريكا - لم ترد عقد مؤتمر يُتَّفَق فيه على معنى محدَّد للإرهاب. والهدف من عدم عقد مثل هذا المؤتمر أن يظلّ الأمر عائماً يفسِّره القويُّ وفق ما يشاء من تفسير، وليس أمام الضعيف إلاّ أن يسايره اقتنع أو لم يقتنع. وإذا ذكرت في وسائل الإعلام الآن كلمة (إرهاب) انصرف الذهن، نتيجة ماكينة إعلام القويِّ المسموعة وذهنيّة الضعيف فاقدة المناعة، إلى ما تقوم به فئة ضالّة الفكر من المنتسبين إلى الإسلام، وكأنّ الإرهاب لا يقوم به إلاّ مسلمون.
إنّ مصطلح الإرهاب Terrorism في اللغات الأوربية مصطلح حديث نسبياً إذا أُخذ على أنّه سعيٌ للقتل والتدمير لإثارة الرُّعب العام من أجل تحقيق هدف سياسي. على أنّ ظهور المصطلح شيء ووجود ما يدلُّ عليه شيء آخر، إذْ إنّ الإرهاب ذاته قديم في تاريخ البشرية. ويبدو أنّ ذلك المصطلح بدأ يدخل إلى تلك اللغات وصفاً لأعمال العنف التي حدثت في عهد روبسبير في أعقاب الثورة الفرنسية. لم يكن في اللغة العربية مصطلح يدلُّ على الإرهاب بمعنى Terrorism إلاّ بعد أن شاعت الكلمة فيها وصفاً للعمليات التي كانت ترتكبها العصابات الصهيونية القادمة من الغرب في فلسطين! ابتداءً من تفجيرها لفندق داود في القدس عام 1946م. ثم كان ما كان من ارتكاب تلك العصابات مجازر ضد الفلسطينيين كمجزرة دير ياسين عام 1948م. فالإرهاب بمعنى Terrorism بضاعة غربية استوردها مَنْ استوردها مِنْ المسلمين اصطلاحاً لغوياً وممارسة عملية.
والإرهاب بالمعنى المشار إليه تدينه الشرائع السماوية، كما ترفضه القوانين الدولية، وتشمئز منه العقول السويَّة السليمة. لكن يجب أن تشمل تلك الإدانة، وذلك الرفض، وهذا الاشمئزاز، كلَّ أنواع الإرهاب؛ سواء ارتكبه أفراد أو جماعات أو حكومات. ويجب، أيضاً - تحقيقاً للعدل والإنصاف - عدم إدراج مقاومة المحتل ضمن الإرهاب. ذلك أنّها حقٌّ من حقوق الشعوب أباحته الأديان المنزلة من رب العالمين، وأقرّته القوانين التي اتفق عليها البشر. بل إنّها - بالنسبة للمسلم المحتلة أرضه - واجب ديني ووطني معاً.
قد يقول قائل: إنّ تبنِّي الديمقراطية يزيل الشعور بالقهر أو يخففه. وإذا لم يكن هناك شعور بالقهر فإنّ دوافع القيام بأعمال إرهابية ستقل؛ بل ربما تختفي. وهذا صحيح إلى حد ما. على أنّ حقائق التاريخ تدلُّ على أنّ تبنِّي الغرب للديمقراطية لم يحل دون انتشار الإرهاب في المجتمعات الغربية ذاتها.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية الكثير الكثير من عصابات الإجرام الإرهابية كما هو معلوم. وحقائق التاريخ تدلُّ، أيضاً، على أنّ تبنِّي الغرب للديمقراطية لم يمنع قادة دوله - وهم رسمياً يمثِّلون شعوبه - من العدوان على الآخرين، وبينهم شعوب أُمّتنا، وذلك ابتداءً من القرن السادس عشر. وتمثَّل ذلك العدوان باجتياحهم الاستعماري كثيراً من أقطار هذه الأُمّة؛ مرتكبين عند عملية الاجتياح وفي أثناء الاحتلال أنواعاً من الجرائم المتنافية مع ما تضمّنته مبادئ الديمقراطية من وجوب احترام حقوق الإنسان. وبعض هذه الأقطار، التي استُعمرت لم تتحرَّر من نير الاستعمار البغيض إلاّ بتضحيات كبيرة جداً.
وإذا كان الاستعمار نوعاً من العدوانية، التي يدخل الإرهاب تحت عباءتها، فإنّ قادة الغرب كثيراً ما كانت نظرتهم إلى الأمور نظرة تدلُّ على نفاق فاضح وازدواجية ممقوتة في المعايير. في أثناء احتلال ألمانيا النازية لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، قام الشعب الفرنسي بعمليات ضد الجيش الألماني والحكومة التي أقامها. ولم تعدَّ زعامات الغرب تلك العمليات أعمالاً غير مبرّرة. بل إنّها حظيت بتأييدها واحترامها. وهذا موقف سليم، لكن مقاومة أقطار أُمّتنا لمستعمريها كانت توصم بأنّها أعمال إرهابية. حدث هذا في الجزائر كما حدث في أقطار أخرى. وعندما كان الأفغانيون يقاومون الوجود السوفيتي في بلادهم كانت أمريكا بالذات تؤيِّد مقاومتهم نكاية بالاتحاد السوفيتي. بل إنّ كلمة (مجاهدين) دخلت اللغات الغربية بلفظها العربي. وبعد انسحاب القوات السوفيتية من أفغانستان، ثم تفكُّك الاتحاد السوفيتي نفسه، اطمأنت أمريكا - ومِنْ ورائها الغرب - إلى كونها قاب قوسين أو أدنى من الهيمنة على كثير من مجريات الأمور في العالم، فراحت تخطِّط وتعمل للقضاء على أيِّ قوة يمكن أن تصبح مصدر خطر، أو حجر عثرة، في سبيل هيمنتها. ولذلك بات أمراً محتَّماً أن تكون المواجهة المقبلة مع المسلمين وفي طليعتهم العرب.
ومما يوضِّح كيل الغرب بمكيالين، أو عدَّة مكاييل، أنّ زعماءه هبُّوا سراعاً، وفرضوا على إندونيسيا أن تُجرى انتخابات في تيمور الشرقية ليقرِّر سكانها البقاء ضمن الدولة الإندونيسية أو الاستقلال عنها. لكنهم بقوا صمّاً بكماً عن القضية الشيشانية حيث كان الشيشانيون يطمحون إلى الاستقلال منذ الاستعمار القيصري الروسي لبلادهم. ولم يلق القصف المروِّع الروسي للعاصمة الشيشانية أيَّ صدى يدفع زعماء الغرب للاحتجاج الواضح أو اتخاذ أيِّ خطوة تدلُّ على معارضة حازمة. وفي البوسنة والهرسك كان الزعماء الغربيون يعلمون حقَّ العلم ما كان يرتكبه الصرب ضد المسلمين هناك من جرائم شنيعة، لكنهم كانوا يتباطؤون في اتخاذ أيِّ موقف حازم حتى أتمّ الصرب أكثر ما كانوا يودُّون إتمامه من مجازر. وربما لو لم تكن صربيا على غير وفاق مع الغرب، وأنّها كانت تعتنق مذهباً مسيحياً ليس منتشراً في البلدان الغربية، لما تحرّك الزعماء الغربيون ضد تلك الجرائم قط. ولقد اعترف الرئيس الأمريكي السابق، نيكسون، باتصاف الغرب باتخاذ مواقف مزدوجة عندما تحدَّث عن مذبحة السوق المشهورة قائلاً:
(إنّها حقيقة مؤلمة محرجة، لكن لا يمكن إنكارها. لو كان سكان سراييفو في أغلبيتهم مسيحيين أو يهوداً لما كان العالم المتحضِّر (وهذا الوصف تعبير شوفيني من قِبل الغرب يدلُّ على رسوخ الشعور بالفوقية) سيسمح للحصار أن يصل إلى الحد الذي وصل إليه في الخامس من فبراير عندما كان الصرب يقصفون سوق سراييفو المزدحم بالسكان. في مثل هذه الحالة سيكون الردُّ لدى العالم المتحضِّر سريعاً. وسيكون محقّاً في ذلك).
ولقد عبَّر المتحدث أمامكم عن تلك المأساة بأبيات قدَّم بها الرئيس البوسني، علي عزة بيقوفيتش، في حفل منحه جائزة الملك فيصل العالمية، سنة 1993م؛ قائلاً: