| |
الحبر الأخضر العقل الذي نريد (رسالة خاصة للعقلاء في زمن الجنون) د. عثمان بن صالح العامر
|
|
قيل فيما مضى إن العقل وزير رشيد وظهير سعيد، من أطاعه أنجاه، ومن عصاه أرداه.. وقيل كل شيء إذ كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثر كان أغلى ولو بيع لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، ولكن أول شرف العقل أنه لا يُشترى بالمال.. وقيل لكل شيء غاية وحد سوى العقل فإنه لا حد له ولا غاية ولكن الناس يتفاوتون فيه كتفاوت الأزهار في الرائحة والطيب.. وقيل لا يدرك قيمة نعمة العقل ويقدرها قدرها إلا من رأى إنساناً فقدها وسلبها.. ومن العجيب أن العرب تمثلت في جل الخصال المعروفة بأقوام جعلوهم أعلاماً فيها، فضربوا بهم المثل إذا أرادوا المبالغة، ومثالاً على ذلك قالوا: أحلم من الأحنف، وأكرم من حاتم، وأبين من سحبان و... ولم يقولوا أعقل من فلان؟؟ بل إن حكيماً عربياً قيل له: حد لنا العقل، فقال: وكيف أحده ولم أره كاملاً في أحد قط!! ويقال اليوم إن العقل السعودي عقل صحراوي يأخذ من الصحراء صفاتها وسماتها وخصائصها المعروفة وهذا سر تخلفه وتعصبه وسبب إرهابه وتطرفه وجفوته وانغلاقه وعدم قبوله للآخر و... سيل من الصفات السلبية التي أصبحت تلصق بنا على وجه العموم بمناسبة وبغير مناسبة يقولها منظرون في الخارج ويعيد صياغتها لتصبح موافقة لمواصفاتنا المحلية أناس من بني جلدتنا يعيشون بيننا ويكتبون حرفنا العربي ويتحدثون بلهجتنا المحلية.. ولذا كانت هناك أصوات عدة في الوسط الثقافي المتأزم تطالب بنسف ثقافة الصحراء من جذورها فهي التي تغذي هذا التوجه المشين الجاثم على صدورنا.. ولست هنا في مقام النافي أو المثبت أو حتى العارض لأبرز ما يعرف عن الصحراء من سمات والربط بينها وبين الشخصية السعودية على وجه العموم ولكنني هنا أذهب إلى أننا في هذا العالم المضطرب المليء بالصراعات المتعددة والتوجسات المتخوفة والحذرة والتوجهات العالمية الفكرية والاقتصادية والسياسية والعقدية المختلفة أشد ما نكون نحن أهل هذه البلاد حاجة إلى العقل المائي كما يسميه (جيم بالارد) ويعني ذلك أخذ خصائص الماء وإسقاطها على العقل الذي نفكر به حتى تصير هي بذاتها خصائص عقولنا التي نحملها.. وأول هذه الخصائص المعروفة خاصية التدفق والسرعة والحيوية والانسيابية والتغلغل وهي القدرة على الانتشار والوصول إلى الغير بسهولة ويسر دون ضجيج أو صياح وبأسرع وقتٍ ممكن، وهذا يوجب علينا التجديد الحقيقي في خطابنا الدعوي والفكري والالتزام الصحيح بنهجنا الوسطي الواضح والمبني على الإقناع للعقل البشري أينما كان ومعرفة عقلية المخاطب وعادته وتقاليده وبيئته - بمعناها الواسع - ورغباته وحاجاته المختلفة وأولوياته في الحياة حتى نصير مثل الماء انسيابيةً وتغلغلاً في الأوساط العالمية عموماً والشعبية منها على وجه الخصوص، وهذا الأمر من مقتضيات الحكمة التي ننشدها في دروب حياتنا كلها.. وهناك خاصية الامتصاص وهي القدرة على استيعاب كل ما يلقى من قولٍ وما ينسج من فعل ومزجه وإخراجه بلون آخر مع بقاء الماء العنصر الأساس والجوهر المهم في هذه التركيبة الجديدة، وهذا يعني قراءة الآخر قراءة واعية متأنية لا متشنجة متعنصرة والانفتاح على فكره بعين القارئ الناقد لا الناقل.. وخاصية الانعكاس وهي القدرة على عكس الأشياء بشكلٍ تام وبكل وضوح حتى يتمكن الكل من قراءتها والتمعن فيها بكل حرية وانفتاح، وتلعب الترجمة العربية الدور الأساس في هذا الباب، وجزماً سيكون للجائزة التي أعلن عنها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ووفقه ورعاه دور أساس في هذا الباب المهم الذي ما زال مفتوحاً على مصراعيه يلجه الكل دون رقيب أو حسيب والنتيجة الطبيعية ضعف خاصية الانعكاس مما يؤثر سلباً في عقولنا المتلقفة لهذا التراث المترجم من بلد الله الواسعة وبكل اللغات.. وهناك خاصية الإصرار وهي القدرة التي لا تلين على نحت وإبلاء المواد الصلبة مع مرور الزمن، وهذا يوجب علينا الصبر والتحمل وعدم استعجال النتائج مع التفاؤل وعدم التشاؤم واليأس من وصول صوتنا إلى الآخرين أينما كانوا ليس هذا فحسب بل التأثير فيهم وكسب المواقف معهم.. ذكر الخطيب البغدادي -رحمه الله- أن رجلاً من أهل العلم كانت له مدارسات وتلمذة فتباطأ تحصيله وأيس من حصوله فترك العلم وخرج مرة فإذا هو بماء يصب فوق صخرة وقد أثر فيها فقال: سبحان الله! هذا الماء على لطافته أثر في هذه الصخرة على كثافتها، فلا والله ليس العلم بألطف من هذا الماء وليس عقلي بأثخن من هذه الصخرة فعاد إلى العلم والتعلم حتى أصبح من كبار المحدثين الحفاظ.. أما الخاصية الخامسة فالهدوء والتقدم في الطريق نحو الهدف مهما كانت الصعاب مع المحافظة على التوازن بدون إحباط أو انزعاج وأخيراً خاصية الاحتفاظ بالجوهر وهي قدرة الماء على الاحتفاظ بماهيته ببساطة وبغض النظر عن شكله المتغير.. بهذا العقل المائي الذي يشعر بالحياة ويبعث على النماء والراحة والاستقرار نكون أقوى ويبقى لنا دور الريادة والتأثير ويمكن أن نؤسس قاعدة صلبة لانطلاقة حضارية ذات أصل ثابت وفي الوقت ذاته متميزة ومنافسة فهل نعي أيها العقلاء أبعاد هذه الرسالة التي دفعني إلى تسطيرها الشعور بالواجب الديني والوطني علنا أن ننحت لنا موضع قدم في عصر العولمة الصعب ونؤسس لمجد قادم تسعد به الأجيال التي في الأصلاب.. وعلى ضوء ذلك يتحدد ماذا سيقال في المستقبل عن عقلنا السعودي بل العربي والإسلامي.
|
|
|
| |
|