| |
بعد الحوار الوطني سيظل التعليم هو القضية..! د. إبراهيم العقيل *
|
|
سعدتُ أن كنتُ أحد المشاركين في الحوار الوطني السادس الذي ناقش واقع التعليم وسبل التطوير، وامتازت أيام الحوار بكثير من الشفافية والمصارحة والمصداقيّة، فلم يتوار المشاركون خلف مجاملات، كما لم يسع المسؤولون لتكثيف الوعود والتصريحات، واتفق الجميع على أن التعليم - العام والعالي والفني - بحاجةٍ إلى كثير من التغيير والتطوير والإصلاح، ومن هذا المنطلق فإن ثمة أفكاراً عمليّة ملحةً يمكن أن تسهم في تحريك المياه الراكدة، وبعث شيء من الحيوية لمدارسنا وكلياتنا ومعاهدنا، وقد يكون من المناسب تجزئتها وفقاً للمراحل والتخصصات. أولاً: التعليم العام: لم يحظَ موضوعٌ بكم كبير من النقاش والطرح والتنظير والأخذ والرد مثلما حظي التعليم العام، ولم يقفْ جهازٌ في مكانه دون أن يأخذ حقه من التغيير والتطوير مثلما أخذ التعليم العام، لذا فإن المقترحات قد تملأُ الصفحات وتشغل اللقاءات والمنتديات والناتج مزيد من الكلام، والمحصلة ضياع الوقت والجهد وبقاء التعليم مثلما كان، لهذا فإنني أرى الصراحة والمباشرة عبر نقاطٍ محدّدة منها: 1) نتمسك كثيراً بالمناهج الرسمية ونخشى تغييرها، مع أن المناهج الخفية Hidden Curriculum أكثر تأثيراً وهي التي يتعلم فيها الطالب من: الزملاء (البيئة) وسائل الاتصال (السفر) الفضائيات.. الخ، وكذلك المناهج غير الرسمية informal التي تأتي من التعليم غير الرسمي المنتشر في طول البلاد وعرضها دون إشراف مباشر أو غير مباشر من وزارة التربية، ولا شك أن المقررات والمناهج ليست من التنزيل المقدّس، ونقل الحوار حولها إلى الشارع (عبر الصحف والمنتديات) تشويشٌ وإثارة وجلبٌ للمبالغة والاتهامات دون طائل، لذا فإن تغيير المقررات والمناهج يجب أن يخضع لرؤيةٍ علميةٍ فنيةٍ مجردة بعيدة عن الأهداف الشخصية والتنظيمية، مع وضع معايير علميّة رسمية لها وإنشاء نظم التقويم لضمان التطوير المستمر للأداء، وتعطى المدارس الأهلية المتميزة الحق في اختيار المقررات المناسبة دون التقيد بالكتاب الحكومي، ويمكن في هذا المجال إسناد المناهج والمقررات والاعتماد الأكاديمي والتقويم الشامل لهيئةٍ مستقلةٍ إدارياً ومالياً وترتبط بمجلس الوزراء. وفي هذا الإطار فإن التعليم الأهلي قادر على اختصار المسافة بين الرؤية والتطبيق، وتجاوز مراحل القراءة الطويلة التي منعتَ (ولا تزال تمنع) المخطط التربوي من تنفيذ أفكاره بسبب ضغوط الشارع غير المتخصص وغير المقتنع بالتغيير والمؤمن أن ليس في الإمكان أحسن مما كان، إن التعليم الأهلي - وهو خيار غير ملزم للجميع - يمكن أن يكون المنطلق لتجربة التطوير عبر إعطائه صلاحيات واسعة في اختيار مناهجه ومقرراته ووسائله وفق معايير علميّة تلتزم بالأُطر العامة التي تضعها وزارة التربية لمفردات المقررات Syllabus، ويكون الدافعُ الأوحد فيها مصلحة الطلاب والطالبات بعيداً عن الأدلجة، وبلغة علميّة فما الذي يمنع تدريس العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية في جميع مراحل التعليم؟ وما الذي يحول دون تدريس المنهج التكاملي في مواد اللغة العربية بحيث يشمل النصُّ تطبيقات نحويةً وبلاغيةً ونقديةً وحفظاً ودراسة تاريخية وبيئية لمرحلة النص وشخصية مبدعيه شعراً أو نثراً، ولماذا ندرِّس مواد الاجتماعيات منفصلةً ثم نعيد تدريسها لكل مرحلة ولا نهتمُّ فيها بالجانب التطبيقي والزيارات الميدانية التي يحول دونها طول المقررات وقلة الساعات وتكبيل المدارس بقيود الوقت والمقرر والموجه وما في حكمها، ولم لا يدرس طلابنا وطالباتنا شيئاً من تاريخ العالم مثلما يدرسون جغرافيته، أو ليس في هذا تكثيف المعرفة بالآخر الذي نريد أن نحاوره؟ وهل نستطيع ذلك دون أن ندرس فكره ومنطلقاته؟ وما الذي يعوق توحيد مدارس تحفيظ القرآن الكريم والأقسام الشرعية والمعاهد العلمية في قسم واحد يتبع وزارة التربية؟ إننا بحاجة إلى إيجاد مؤسسة للتعليم الأهلي ذات شخصية اعتبارية يكون وزير التربية رئيس مجلس إداراتها، وتشرف بشكل شامل على شؤون المدارس الأهلية، ولعل هذه المؤسسة ستكون ذات دور فعال كذلك في تخفيف الأعباء المالية على الحكومة، ففيما يكلف الطالب في مدارس التعليم العام مبالغ تبدأ من ثمانية آلاف في المتوسط وتصل إلى أرقامٍ كبيرة في القرى والهجر والأحياء النائية فإن دعم التعليم، وإعطاء إعاناتٍ معقولة عن كل طالب وطالبة سيؤدي إلى نشر التعليم الأهلي الذي لا يتجاوز دوره الحالي 7.4% من إجمالي التعليم بينما تطمح الوزارة إلى أن يبلغ 25% خلال السنوات القريبة، هذا عدا حل مشكلة المباني المدرسية التي أصبحنا مضرب المثل في تدني مستوياتها وتجهيزاتها مع النظر في إمكان نقل وكالة المباني إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية. وإذا تم ذلك فإن التدريب النوعي لمعلمي ومعلمات وإداريي المدارس ستزدادُ العناية به، وسوف يستفيد من ذلك معلمو ومعلمات وإداريو المدارس الحكومية، وسنجد أننا قادرون على استقدام واستلهام تجارب عالمية ناجحة في التعليم والتدريب، وسنتلافى الخطأ الكبير الذي سعت إليه وزارة العمل في سعودة العقول لنؤمن أن البقاء دائماً للأصلح فقط، خصوصاً عند إقرار الاعتماد الأكاديمي الدوري للمدارس والعاملين فيها، بحيث لا يُمكِّن من التدريس والاستمرار فيه إلا القادرون، كما أن توسيع التعليم الأهلي سيعطي الفرصة للطلاب المقيمين لتكون لهم مقاعد كافية مما سينعكس إيجاباً على حفز التنافس العلمي نحو أداء أفضل، هذا عدا تعزيز التقنية ومراكز مصادر التعلم والإفادة من التعليم الإلكتروني والمدخلات التقنية المتعددة. التعليم الفني: لهذا التعليم توجهه، وقد يشترك في بعض المشكلات مع التعليم العام، مثلما يفترق عنها في مشكلات أخرى، ويمكن البدء بمسمى المؤسسة الذي يبدو طويلاً مشتملاً على ثلاثة موصوفات: المؤسسة (التعليم) التدريب، وثلاث صفات: (العامة - الفني - المهني)، ولعل من الأنسب محاولة اختصار الاسم، بدمج التعليم مع التدريب من باب التغليب، وهو ما يُشرعه اللغويون، والتركيز على التدريب، حيث هو الأهم وتسميتها: المؤسسة العامة للتدريب التطبيقي، ويخرج بهذا معهد الإدارة - على سبيل المثال - حيث هو المسؤول عن التدريب الإداري. هذه ملاحظة شكلية تتبع دمج التعليم والتدريب الفني سواء منه ما يتبع وزارة الدفاع ووزارة الصحة ووزارة الداخلية ووزارة الشؤون البلدية والقروية وغيرها أو ما يرتبط بها بحكم التخصص وإلحاقه من ثم بالمؤسسة وإعطاءه ميزات المعاهد العسكرية والصحية والبلدية ونحوها، خصوصاً في تعيين المتدربين على وظائف مقررة معتمدة في ميزانية الوزارات المشار إليها، وهذا سيُساعد في تعزيز الإقبال وتوحيد الجهود، أما الكليات ذات السنوات الأربع وهي الكليات التقنية فمن الأفضل ربطها بوزارة التعليم العالي ووضعها تحت مظلة الجامعات ذات التوجه التقني كجامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة الملك سعود وجامعة الملك عبدالعزيز. إن هذه الخطوات تستلزم بدءاً تقديم مادة التربية المهنية في مدارس التعليم العام، وإدخال مادة التهيئة لسوق العمل ضمن برنامج المرحلة الثانوية وتدرس فيها الأعمال المكتبية مثل المحاسبة والسكرتارية والمستودعات والمشتريات والتسويق والعلاقات العامة، وقد تكون هذه المادة بديلاً عن الأقسام الإدارية في الثانويات التي لم يثبتْ نجاحُها، مع ربط التعليم التجاري المنتهي بدبلوم أو شهادة بمعهد الإدارة العامة، أو التفكير بإلغائه اكتفاءً بدبلومات المعاهد الأهليّة المعتمدة. ولعل المقترحات السابقة تتطلب كذلك ضرورة التركيز على التدريب العملي وعدم الاكتفاء بالتدريس النظري، وبنظرةٍ إلى خريجي المعاهد والمراكز المهنية فإنهم يبدون غير مهيئين عملياً، وتحتاج الجهات التي توظفهم لجهودٍ كبيرةٍ لتدريبهم وتأهيلهم على ما تخصصوا فيه، ولا شك أن هذا خلل كبير. إن التدريب التطبيقي (الأهلي) يحتاج إلى دعم في المخصصات عن طريق إصدار قسائم لأولياء الأمور لتدريب أبنائهم في معاهد ومراكز المؤسسة، مع أهمية وضع برنامج لإعادة تأهيل خريجي الجامعات في بعض التخصصات، ودفع بدل خطر لحاملي شهادات التدريب التطبيقي لا تقل عن 30% (وهي نسبة مقررة عالمياً)، وعمل دورات قصيرة للمواطنين الذين لا يجيدون القراءة والكتابة أو هم ضعيفون فيها لتدريبهم على المهن الصغيرة مثل السباكة والكهرباء واللحام والدهان وإصلاح الساعات وإصلاح الأجهزة المنزلية، وكذا برامج مماثلة لربات البيوت. التعليم العالي: * يجيء جماعُ القضية في التعليم العالي والأعلى الذي يحتاج إلى مواءمة مخرجاته مع احتياجات سوق العمل، ولن يتأتى ذلك وطلاب وطالبات الدراسات النظرية يمثلون السواد الأعظم في الجامعات والكليات، إذن فإن الوزارة مثل الجامعات مطالبة بالكثير يأتي في مقدمته ما يلي: * التركيز على بناء الشخصية المفكرة القادرة على الفهم والتفاهم وقبول الرأي المعارض والنظر إلى الغد بمناظير علمية واعية، وتهيئتهم للعيش والتعايش في عصر العولمة، والاستفادة من التجارب الحضارية المتطورة. * الاهتمام بالتخصصات التي تحتاجُ إليها البلاد، وعدم التردد - تحت أي ضغوط - في قفل كثير من التخصصات التي لا تنتج سوى إضافة مزيد من الأعباء المالية والاجتماعية والأمنية. * توسيع الابتعاث لتغطية الاختصاصات التي تدعو إليها الحاجة ولا تستوفيها الجامعات. * إشراك الطلاب والطالبات في مجالس الجامعات والكليات، وإعادة النشاط الثقافي بعيداً عن تركيزه في عمادات شؤون الطلاب التي تحولت بها الجامعات إلى مدارس ابتدائية، ومن يذكر أياماً سبقت يدرك الفرق بين الأمس واليوم. * تعزيز البحث العلمي، ودعمه مالياً وإدارياً، وتحكيم مخرجاته ونتائجه، وتفريغ الباحثين القادرين، وربطهم برئاسة الجامعات مباشرة. * دعم استقلالية الجامعات وإعطاء رؤساء (مديري) الجامعات صلاحيات تنظيمية ومالية، وإيجاد مؤسسة للتعليم الأهلي الجامعي ذات شخصية اعتبارية مستقلة يكون وزير التعليم العالي رئيس مجلس إدارتها كما في التعليم الأهلي العام. * دعم المتميزين فقط من أعضاء هيئة التدريس ممن يسهمون في البحث العلمي والتدريس الجاد وضمان عدم تسربهم، وتنظيم قياس دوري لمستوى وكفاءة أعضاء هيئة التدريس، والاستعانة بالخبرات المؤهلة وحملة الدرجات العليا ويعملون خارج الجامعة دون المرور بالعقبات البيروقراطية. * إعادة نظام الساعات، ومراجعة الأنظمة التعليمية، والإفادة من تقنيات التعليم عن بعد لتعويض نقص الكفاءات، هذا عدا توظيف مباني التعليم العام المتميزة - بشكل مؤقت - للجامعات الأهلية حتى تستوي على سوقها. وفي الأخير فإن (التخصيص) يبقى الحل الأمثل لمشكلات التعليم العام والعالي والتطبيقي مع بقاء دور الوزارات والمؤسسات المعنية في التخطيط والإشراف والمشاركة مع قياديي التعليم في القطاع الأهلي، ولعلنا نعلم أن من أفضل المدارس والجامعات على مستوى العالم عدداً من المدارس والجامعات الأهلية.
*أستاذ جامعي سابق (فيزياء نووية)
|
|
|
| |
|