| |
الخلّ الوفيّ 1-3 د. محمد بن سعد الشويعر
|
|
الخلّ هو الصديق المعافى، والصاحب الملازم الناصح، والوفيّ هو الصدوق، المخلص في مودّته، الوفيّ في نصحه.. والعرب في أمثالهم يرون أن الخليل النّاصح، الصادق في مشورته، ومودّته، نادر الوجود، بل قد ينعدم العثور عليه، أو من المستحيلات، لأنها غايات مقترنة بأسباب. ومن باب التشاؤم، ونكران الوفاء في بعض المجتمعات، باعتبار أن النّاس لا يفون إلا لمصالحهم، ولا ينصحون إلا لمآرب ذاتية، ومنافع وقتية، فإذا زالت هذه الأمور، أو ضعف الرجاء فيها، تخلّى ذلك الصديق عن صاحبه، وإذا حلّتْ به مشكلة أدبر الناس عنه. وقد جاء في أمثالهم ما يدلّ على ذلك، بأن ما يندر وجوده في المجتمعات، بل حكموا بأنه لا وجود له، ثلاثة أشياء، منها العنقاء، والخلّ الوفيّ، إذ جاء في أشعارهم أن ذلك من المستحيلات، وهذا حكم جائر، فالعنقاء طائر وهميّ لا وجود له، ولم يروه، وإنما يتشاءمون به.. ولذا لما قال رجل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عندما بدأ ظل الأمور ينحسر عنه، ومن كانوا له أصحاباً يتخلّون عنه: ما بال الناس انفلّوا من حولك يا أمير المؤمنين وقد كانوا كثيرين من قبل؟ قال: رأيتهم والدنيا مقبلة، فكانوا كثيرين، ثم رأيتهم بعدما بدأ ظل الأمر ينحصر فصاروا قليلين. ومفهوم قلتهم من عدم الوفاء. ولذا يُرى في كثير من المجتمعات التي يكثر فيها عدم الوفاء، أن الإنسان إذا كان الآخرون يطمعون في نفع من مكانته أو رفد من ماله، أو جاهه، ويرجون أن يحظوا بما يحقق أمنيات في نفوسهم: مالية أو معنوية لهم أو لمن يعزّ عليهم، يتقرّبون من وجاهته، ويتزلّفون من مجلسه: مدحاً متكلفاً، وكلاماً ليّناً، فيحسّنون من أقواله وأفعاله، ما يتحول قدحاً عندما تتغير حاله، وهؤلاء ممّن وصفهم الرسول عليم اللّسان؛ لأن تلك الخلة، لم تكن خالصة بعد، وذلك المديح لم يكن عن صدق ولا عن حب في الله ولله. وهذا من عدم الوفاء، وما أكثر هذه العادة، في بعض المجتمعات النفعية والماديّة، إذ تتقرب إلى صاحب المكانة من لم يعرفه من قبل، ويمجّده سماعاً في وجهه، أو عند من يتوجّس منه تبليغاً له. وتتأكد هذه الخلال، تعلقاً بأدنى معرفة، وتمسّكاً بأقرب رابطة من الرّوابط التي كانت من قبل بعيدة ثم اعتقدها بعضهم قوية مع وشيجة المصلحة المرتقبة. تكون هذه العلاقة التي يحرص عليها النفعيون، قوية ببدء النجم في البروز، مالياً أو وظيفياً، لكنها صداقة متكلفة، وأساسها سريع الانهيار، لأنها لم تبنَ على مودّة وصفاء، ولم ترتكز على صدق ووفاء، حيث تنتهي بانتهاء المسببات لها، ومع عدم توافر ما يؤمله صاحبها، فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا سخطوا، وابتعدوا في تلمس أرض أخرى، ينبت فيها زرعهم، مثل من وصفهم سبحانه في كتابه الكريم: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (17) سورة الرعد. إن الخلّ الوفي هو الذي لا يتزلّف، ولا يطلب لنصحه عوضاً ولا معروفاً، وإنما يزور لماماً، ويعطي من جهده ووفائه بما يرتِق خللاً في خليله، ويثبّت أمامه المعنى الحقيقي للصداقة لأنه يدرك بأن الصديق من صدقك، لا من صدّقك. وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام، تقوّي أواصر الصدق في الحديث، والوفاء عندما تدلهم الأمور، وتدعو إلى النصح وحسن الثناء من دون تكلف أو تزلّف، وذلك في آيات كثيرة من كتاب الله - عز وجل - يمدح الله بها الصادقين في حديثهم ونصحهم، الموفين بعهدهم إذا عاهدوا، والثابتين على المودة والصفاء، لا لمصلحة دنيوية، أو مطامع ذاتية، وإنما طمعاً في الأجر من الله، وثباتاً على مبدأ أحبه الله وحث عليه، وحذر من ضدّه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، حيث ذمّ صفات هي: الكذب، والبهتان والنميمة، والغدر في العهد، والخيانة في الأمانة والغيبة، ووصفهم بالنفاق، لأنهم يقولون ما لا يفعلون، وتكذّب أقوالهم ما تضمره قلوبهم: { كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) سورة الصف. ويضربُ المثل الأعلى، في بذل النصح، والصدق وحسن المودّة، رجال كثيرون، قديماً وحديثاً، هم النموذج للخلّ الوفيّ، لا يطمعون وراء ذلك عرضاً زائلاً، ولا محمدة مؤقت زمانها، برزوا في تاريخ الإسلام: نبلاً ووفاء، وشهامة وإخلاصاً أمثال: - الفضيل بن عياض عندما كلّم الرشيد، وهو في مكة للحج، من قلب نقيّ، فبدأ بنصحه، وبذكر مشورة كل من سالم بن عبدالله، ومحمد بن كعب القرظيّ، ورجاء بن حيوة على عمر بن عبدالعزيز بعدما ولي الخلافة وعدّها بلاء، ولما ذكر كلامهم، قال للرشيد: فهل معك - رحمك الله - من يشير عليك بمثل مشورتهم على عمر بن عبدالعزيز، فإنّي أخاف عليك أشد الخوف، يوماً تزلّ فيه الأقدام ولما أكثر في بذلِ نُصحه، ومن قلب صادق، قال له الرشيد: أذكر حاجتك، وبين دينك!! قال: إن ربي لم يأمرني بهذا. فأعطاه ألف دينار، وقال: خذها وانفع بها غيرك، وانفق منها على عيالك، وتقوّ بها على عبادتك، لكنه رفضها، وقال له: سبحان الله أنا أدلّك على النجاة، وأنت تكافئني بمثل هذا.. ثم هرب منه إلى سطح المنزل.. فأدرك هارون نصحه ووفاءه، حيث دخل كلامه قلبه، وقال للفضل بن الرّبيع: إذا أدللتني على رجل فدلّني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين. والفضيل في حكايته مع هارون الطويلة، ونصحه له فإنه حريص على ما ينفعه، وهذا يمثل نظرة الإسلام في الوفاء وأداء الأمانة، والنّصح لما فيه مصلحة المنصوح، ولذا رقّت حواس الرشيد لكلماته التي خرجت من قلب صادق، لتلج في قلبٍ متفتح للنّصح، لأن الثلاثة النّاصحين قبل الفضيل أسرعوا في المجيء للنصح طمعاً في المنحة المالية، حيث لم يدخلا نصحه قلبه لهذا السبب. للبحث صلة.. دعوات مستجابة كان منصور بن عمار من العبّاد الزهاد، وكان واعظاً ترقّ القلوب لحديثه، وتدمع العيون مع خطبه، وله مواقف كثيرة، فمن ذلك ما جاء في كتاب محاضرات الأبرار، ومسامرات الأخيار، وتداور هذه الحكاية عنه: قال جلس رجل من المسرفين على نفسه، في مجلس راحته مع ندمائه، ثم دعا بغلامه، فدفع إليه أربعة دراهم، وأمره أن يشتري بها من المشمومات، ما يليق بمجلس راحته، فمرّ الغلام بمجلس منصور بن عمارة وهو يسأل لفقير، بين يديه. فسمعه يقول: بقيت لهذا الفقير أربعة دراهم، فمن دفعها إليه، دعوت له بأربع دعوات، فدفع الغلام له الدراهم، فقال له منصور: ما الذي تريد أن أدعو لك به؟ فقال: سيدي أريد أن أتخلّص منه، فدعا له بذلك. فقال له: وما الذي تريد أن أدعو لك به ثانية؟ فقال: أريد أن تُخلفَ عليّ هذه الدراهم. فدعا له بذلك. قال منصور: فما الدعوة الثالثة؟ قال أحبّ أن يتوب الله على سيّدي. فدعا له بذلك، وسأله عن الرابعة فقال أحب أن يغفر الله لي ولسيدي ولك، وللقوم الحضور، فدعا منصور بذلك، وانصرف الغلام إلى سيده راجعاً، وقد أبطأ عليه، فقال له: لِمَ أبطأت عليّ؟ وأين الحاجة التي أمرتك بشرائها؟ فقصّ الغلام عليه القصّة. فقال: أخبرني ما الذي دعا لك به؟ فقال: سألته أن يدعو لي بالعتق. فقال له: اذهب فأنت حرّ لوجه الله تعالى. فما الثانية؟ قال: أن يتوب الله عليك. قال: فإني أشهد الله أني تائب. فما الثالثة؟ قال: أن تخلف عليّ على الدراهم. فقال: لك من مالي أربعمائة درهم. قال: فما الرابعة؟ قال: أن يغفر الله لي ولك وللمذكور ولأهل مجلسه. قال: ذلك لله عز وجل. فلما كان في الليل وقف للرجل هاتف في منامه، فقال له: يقول الله لك أنت فعلت ما إليك وأنت عبد ضعيف أتراني أفعل ما كان إليّ، وأنا المولى الكريم؟ قد غفرت لك وللغلام، وللمذكور، ولأهل مجلسه (1 :212).
|
|
|
| |
|