السفير الحقيقي
د. موسى بن عيسى العويس تعليم الرياض

* لا شيء أقدر من الثقافة، وأسرع منها وصولاً للوجدان، ولا شيء أصدق منها في نقل الصورة الحقيقية للمجتمع السعودي.
والثقافة متى ترجمت إلى سلوك عملي كانت أكثر بعداً، وأعمق في التأثير.
* ومن التجارب ما يغير قناعات الإنسان، ويزيد من اتساع نظرته وأبعاد رؤيته واختلاف مفاهيمه، والنضج في تفكيره، ومما لا شك فيه أن الدول تتباين في ثقافتها وحضارتها ومكانتها، وبقدر هذا التباين تتمايز في أهدافها ورسالاتها الموجهة للعالم. وأيّ إنسان يمتلك أدنى درجات المواطنة والانتماء لثقافته يسعده -بلا ريب- تغلغلها في المجتمعات الأخرى، كما ويسوؤه في الوقت نفسه انحسارها، أو انكفائها على ذاتها.
* في أكثر من موقف، وفي أكثر من دولة تبين لي أن السفير الحقيقي للبلاد -إذا ابتعدت عن الأعراف السياسية- هو المواطن أولاً بكل ما يحمله من صفات، وثقافة البلد ثانياً بكل ما تحمله من أبعاد.
* لن أتحدث عن هذا الوطن كونه موطن البيت العتيق، ولا على أنه منجب النبي العربي عليه الصلاة والسلام، ولا على أنه منشأ الفصحى وأم اللغات، أو كون هذه الدولة الفتية أضخم دولة عرفها التاريخ في زمن قصير، كل هذا مستقرٌ في أذهان الكثير ويعلمونها، لكنهم يتفاوتون في استشعار عظمة هذه الخصوصيات. بالتأكيد خرج من هذه البلاد قديماً وحديثاً عباقرة أفذاذ سنوا للعالم شرائعه الأدبية، التي أضحت فيما بعد حلية الإنسان المتمدن، ومزيته، وعنوان كماله، وسياج حضارته. كل هذه مقومات كبيرة، وروافد عظيمة للنهوض بالمسؤولية، أمام القيادة، والمجتمع، والتاريخ.
* لن أقسو في التعبير وأقول: إن مدارسنا ومعاهدنا وأكاديمياتنا في الخارج أمست منارات صامتة، وآبار معطلة، في قصور مشيدة، في وقت، وفي ظرفٍ نحنُ بأمس الحاجة إلى صوتها الناطق بالحقيقة، من غير محاباة، أو مبالغات، أو مجاملات، أو إقصاء للآخرين، أو أي أسلوب يفضي إلى إشعال جذوة الصراع، أو يقود إلى تصادم البشر، والنزاع بين الحضارات.
* معالم ثقافية، في مطارح نائية، توسعت الدولة في استحداثها، وأنفقت عليها بسخاء لا محدود، وبذلت الحوافز الكبيرة، والميزات غير المحدودة لمن قدر له أن يعمل بها، والوطن ينتظر منهم تسديد جزء من هذا الدين، والأمانة الملقاة.
* ومن المصادر الثقافية الأخرى التي ننتظر منها الإسهام بصورة أكبر (الوسائل الإعلامية، المقروءة، والمسموعة، والمشاهد منها)، ففي دولٍ مجاورة، تربطنا بهم أكثر من وشيجة قادني حب الاستطلاع السريع عما إذا كان لمؤسساتنا الصحفية ذلك الانتشار الكبير، والرواج الواسع، وفوجئت بأن المعروض منها قليل، مقارنة بما يفد إلينا منها، رغم امتلاكنا الكثير من عوامل القوة والقدرة على النفوذ.
* هذه المشاهدات والمواقف تطرح علينا أكثر من سؤال؟ هل الجهات ذات الصلة الموكلة بالإيفاد الخارجي كوزارة (التربية والتعليم) وضعت ضوابط ومعايير مهنية لا تكشف شخصية الموفد كشفاً دقيقاً؟ ومدى توافر السمات والمؤهلات التي تؤهله بأدوار ثقافية مؤثرة، في الأوساط الأخرى.
هل كل سفارة من سفاراتنا قادرة على تحريك الجانب الثقافي، وأن تعيد لنا ما يقوم به السفير السعودي في واشنطن الأمير (تركي الفيصل)، وما كان يقوم به معالي الدكتور: (غازي القصيبي) السفير السعودي السابق في البحرين، وفي بريطانيا، أو غيرهم من السفراء المثقفين الذين شهد لهم بحراك ثقافي، يواكب الطموحات، ويحقق الأهداف الإستراتيجية لثقافتنا وحضارتنا.
* في اعتقادي أمام هذه التساؤلات أننا بحاجة ماسة إلى أن نبني ثقافة الإنسان السعودي من جديد، وتكوين انتماءاته التي تخدم مصلحة أمته وبلاده مستقبلاً. ومن الخطأ البين أن يشعر الفرد أنه على هامش المجتمع، مهما كانت مكانته، أو قوة نفوذه. لأنه في الحقيقة يمثل نفسه، وشرائح المجتمع من حوله. يمثل الثقافة العريقة. ويمثل التوجهات المتنوعة. يمثل الطموحات العريضة. يمثل الأخلاقيات السامية. كلي أملٌ أن نعيد حساباتنا في هذا الموضوع، ونحن بإذن الله قادرون على استدراك ما فات، والبناء من جديد.