الباحة طبيعة خلابة وجوّ عليل. هي في ذاكرة الأيام تاريخ يمتد ليعانق المجد والسمو. الباحة منطقة حالمة تتوسّد جبال السراة شموخاً وكبرياء وتتدثر بالسحب انتشاء وخيلاء. تشكلت في الذاكرة مكانا عاليا له شموخ السروات وله عبق طيب الريحان والكادي. في هذه الأيام سطرت الباحة فعلا إضافيا في رواية الخلود ذلك الملتقى الثقافي الذي هو الثاني، ولكنه كان مختلفا ومتميزا تميز بالحضور وتميز بالموضوع الرواية والتحولات الاجتماعية، والذي نظمه النادي الأدبي بالباحة في شهر شعبان وحضره الكثير من الأكاديميين والمثقفين والروائيين والمفكرين؛ فكان تظاهرة ثقافية أبدع النادي الأدبي في التنظيم، وإن غاب عن المشاركة كغياب مثقفي الباحة عنها. كان الجو الثقافي جوا صحيا اتسم بالمناقشة الجادة والحوار الرزين والطرح الراقي، ومع كل هذا كانت الباحة الرواية الأهم حضورا والشاهد على سباق التحولات الاجتماعية؛ حيث هذا الكم الكبير ممن وسموا في زمن مضى بالحداثيين والذين قاطعتهم المؤسسة الثقافية بالباحة زمنا، وهذا التحول في إدارة المؤسسة نتيجة طبيعة للمطالبة الدائمة من مثقفي الباحة بقبول كل الأطياف والأجناس الأدبية وفتح باب المؤسسة للجميع. ارتدت الباحة أبهى الحلل وأرق وأعذب التحايا على وجوه لها من سمو الباحة سمو الكرم وحسن الضيافة شاركتهم السماء ابتهاجهم بالقادمين بغيوم عانقت الملتقى الذي اختير له مكانا عاليا في إحدى قمم السراة الشاهقة؛ فكانت الأمطار تهطل بين حين وآخر مترجمة للترحيبة الأجمل والأعذب والأشهر لأبناء الباحة (مرحبا هيل.. عيد السيل).. هطلت الأمطار مع تزامن هطل المعرفة والثقافة من قامات لها حضورها وتميزها كانت لنا الضياء في طريق يمتد بنا من ذهنية شاعرة إلى حاضر سردي استطاع أن يكون لغة العصر ولغة الحدث ولغة التاريخ، ولم تغب الباحة الرواية أو الراوي عن الملتقى، وذلك من خلال ما كتبه عبدالعزيز مشري أو ما سطره أحمد الدويحي فيما كتباه عن إنسان هذه المنطقة وما وصفا به الجمال مكانا كانت الباحة مسرحه الجميل أو ما وجهت به نورة الغامدي بوصلتها في مسارنا الثقافي وحضورنا في تاريخ إبداع هذا الوطن. كان محمد العباس مندهشاً من هذا الحب الذي يربط الباحة بأبنائها والأبناء بباحتهم التي منحتهم فرصة الالتقاء والاجتماع والتحاور بشفافية وصدق مع القادمين إليها؛ فردد مفكراً: (هنا سر الحياة.. الإنسان والعبق). وكان الموكلي الذي حضر من جازان يحمل الفل أسيراً لذلك الريحان والكادي الذي سكن كل زوايا الملتقى فتعطرت به النفوس فتعانقت متلهفة ومشتاقة متسامحة ومتحابة في جو هو القرية التي افتقدها المشري والإنسان الذي احتفى به الدويحي وعاش من أجله الدميني شاعرا ومفكرا ومبدعا، غنى الموكلي في ساعة صفاء منتشيا: (الباحة العطر وإن طال السفر). الباحة رواية الخلود هي تلك التظاهرة الثقافية التي اختلف عليها الكثير وتباشر بها الكثير، ولكنها حضرت لتقول للجميع: لا يزال للإبداع بقية وللعطاء إنسان تربى فوق هذه الجبال يعشق البوح ويناجي السماء يتكحل بالسحاب ليبصر ما وراء تلك الجبال وتغنى كثيرا بأناشيد كان لها حضور في مساء تشابكت فيه السواعد على إيقاع جنوبي أصيل؛ فعانقت تبوك العطوي جازان الحازمي ونجد البازعي حجاز القرشي، وبقيت الباحة تعزف ألحان الشجن والحب؛ حتى تقاسم الجميع خبزة الانتماء إلى هذا الوطن الكبير. ربما لم تستطع الباحة أن تقدم كل مفاتنها الجمالية والإبداعية لأسباب التنظيم، ولكنها أعلنت للجميع بصوت هو الحب وطلب المعرفة والثقافة بأنها أرض خصبة صالحة لاستنبات الكثير من المشاريع الثقافية والفكرية قادرة على التعايش مع كل التحولات الاجتماعية قابلة لأن تكون منبراً حراً يدعو إلى الحوار ويشارك في صناعة ثقافة متوازنة لها جذورها المعرفية والإنسانية.