في الطور الثالث قامت قوانين أدبية ألزمت الأقوياء بالقيام على مصالح الضعفاء رغم أنها فرائض اختيارية شدت من أزر الجماعة وانتهت بها إلى اعتبارات روحية زاحمت فيها قوة الجسد قوة أخرى ذابلة حائلة و(بالضعف أشبه، بل هي ضعف ولكنه ضعف محترم محبوب) (محاضرة 48). هذه القوة المعنوية ذات السجايا النافعة حددت جماعة الضعفاء من شيوخ وأطفال انضمت إليهم المرأة مزهوة بضعفها (النبيل)، ضعف (كانت الدعوة الأولى إليه صرخة طفل وبسمته وعواطف البنوة والأبوة والأمومة والقرابة والاشتراك (محاضرة 49). هل ضمن هذا الضعف المقرر للمرأة مكسباً فاضلاً؟ ليس بعد! فشحاتة يخبرنا أن القوة الجسدية قامت برعاية الضعفاء وهي (غير شاعرة بأنها فضائل تتصل بدخائل النفس لوضوح اتصالها بأسباب حياتها الظاهرة) (محاضرة 114)
أما الطور الرابع فهو (العهد الذي برزت فيه أول فضيلة... هو العهد الذي انبثق فيه فجر المدنية الفكرية للإنسان) (محاضرة 29) هنا يبدأ التلقي عن الأجداد وترسيخ الفضائل ومزاولتها على أنها (فضائل يتحتم الإيمان بها وعلى أنها محاسن وسجايا يتصف بها الأقوياء الممتازون (محاضرة59). حين تحولت السجايا إلى أخلاق ومعتقدات لا شعورية كانت المرأة قد انضمت إلى زمرة الضعفاء المستفيدين من فعل الفضيلة، وبالتالي لم يظهر لها دور ولا حتى في العمل على تثبيت معتقدات الفضيلة في نفس الرجل من خلال الإيحاء والتربية. المرأة في هذا الطور متلقي سلبي لما يتفضل به الرجل القوي من فضائل: (في حياة الإنسان القديم: القوي الذي يعطف على الشيوخ والنساء والأطفال أقوى وأحسن وأفضل. والقوي الذي لا يعطف على الشيوخ والنساء والأطفال رديء قاس) (محاضرة55).
الشيوخ والأطفال رجال في مراحل ضعف، والمرأة لا تخرج من دائرة الضعف وكأن طفولتها وشيخوختها يحاصرا شبابها ونضجها! بل إن شحاتة لا يغفل مساهمة الطفل في مراحل الحياة الصعبة فيقول: (كان الطفل القديم في الأطوار الأولى يخاف ويساهم بنصيبه في احتمال قسوة العيش وأعبائه) (محاضرة58)، لكنه لا يذكر للمرأة أي عطاء.
ويعزز شحاتة مكانة الرجل على سلم الفضيلة بمنحه صفة يعرف جيداً أنها من صفات النساء، فحين تبقى القوة حكراً على الرجل، يخرج الحياء عن طبيعته المعروفة كدلالة الحس الأنثوي المرهف، حيث جرت العادة على اعتباره (ضابط العفة وصمام الأمن في أخلاق المرأة، كمالاً للأنثى وعيباً للرجل (محاضرة 86 )، فشحاتة يعتبر ذلك سوء نظر إلى الحياء واضطراب في تحديد معانيه، فهو ليس ضعفاً إلا في النساء، أما في الرجل فإنه (قوة تحاول أن تجعل الإنسان متسقاً مؤدباً هادئاً) (محاضرة 90). في موضعها الجديد تتحول صفة الحياء إلى (تربية وقانون) ( محاضرة 91). هذا هو الحياء الذي جهلناه فحسبناه ضعفاً ننتزعه انتزاعاً من دماء أبنائنا وناشئتنا وهو قانون الفطرة الإنسانية وقانون قوتها المطلقة (محاضرة 96).
حياء الرجل فضيلة نصيب المرأة منها وقوعها عليها، لذا فظهور المرأة في النص يصل أقصى درجات الوضوح مع حياء الرجل الذي:
(يرى الغلام الهزيل تكدح عليه أمه الفانية فيستحي ويعطف
يرى المرأة العجوز.. أقعدها كلال السن.. فيستحي
يرى الفتاة تدفعها الحاجة القاسية فيتذكر ابنته وأخته فيستحي
يرى المرأة الغريرة ... فيستحي
يرى المرأة تغالب الحاجة وتتعفف .. فيستحي (محاضرة 97-98)
الحياء الذي هو قوة تطالب به المرأة الرجل حين يمتهن حيائها الضعيف، وتجري كلمة (استح)
(على لسان البنت الخفرة التي ما تحس عرفا ولا نكرا تقولها بدمها الطافر إلى وجهها المحتقن حمرة قانية عندما تفاجأ طبيعتها بشيء تنكره طبيعتها) (محاضرة 100)، ويحذو شحاتة حذوها في سلسلة نصائح ووعظ مباشر تنتهي بفعل الأمر (استح ):
أيها الرجل الذي لا يرى في المرأة إلا الجسد.... فاستح (محاضرة)
إن كنت لا تعرف في المرأة إلا لغة جسدها ولغة شهوتك فاستح
إن كنت لا تستطيع أن تعول زوجتك وتربي ولدك.. فاستح
إن كنت لا تريد لفتاتك إلا الفتى ولو لم يكن رجلاً. فاستح
إن كنت تبيعها لمن يدفع الثمن.. فاستح (محاضرة 101- 103)
ويستمر الحث على تفعيل صفة الحياء عند الرجل في جميع مواقعه الفعالة في المجتمع، فشحاتة يخاطب كلاً في مكان عطائه وبذله، فينادي أيها الخطيب، والمتحدث، والبائع، والكاتب، والشاعر، والمتعلم، والشاب، والطبيب، وحتى الوطني (محاضرة 100). حتى الرحمة تصبح من معاني الحياء الرجولي، أما المرأة فحياؤها الضعيف يسلبها حتى أهليتها لتحمل ذنب الرذيلة، لأن الحياء في المرأة معناه أنها المرأة .....تجعل جسدها حرماً لا يتدنس وفيها حياة، ما دامت لها طاقة، فإن كانت جاهلة أو محتاجة أو ضعيفة فذلك ذنب الأمة التي لا يكون فيها رجال وإن كانت طائشة بها مس من طبيعة الشيطان فيها فذلك ذنب الرجل الذي يراها جسداً.. (محاضرة 105).
لا تتحمل المرأة ذنوباً لأنها لا تتحمل مسئوليات. حتى مسئولية تربية الأطفال لا يشيد بها النص رغم أن شحاتة يولي تربية الأطفال أهمية كبرى في بناء المجتمعات الكبيرة ويشير إلى أن (القوانين لا تربي الأمم... إنما تربيها وتبنيها تربية البيت الأولى) (محاضرة 92). لكن النص لا يسند هذه المهمة للأمهات اللاتي يأتي ذكرهن عرضاً مرتين مقروناً بالآباء (محاضرة 105 - 109)، رغم أن العناية بالأطفال «في سني حياتهم الأولى» هي مهمة الأمهات.
أما في المرحلة الزمنية الآنية (حاضر شحاتة) فبعد أن أدت المحاسن الاختيارية إلى بروز الفضائل، بدأ نفوذها يتقلص. (في هذا الزمن العجيب الذي اتضحت فيه سبل الحياة وحقائقها) أصبحت الفضائل في المجتمعات اليوم مجرد شعارات (رفات 62)، (فإذا قال قائل إن حظ الفضائل آخذ في الإدبار، لم يقل إلا بعض الحقيقة.. الحقيقة كلها أن حظ الفضائل قد أدبر وزال) (محاضرة 66). ورغم أن انتشار الرذائل وانكشاف مكنونات النفس قد وقع أيضاً (في عصور عجيبة قبله) (محاضرة 82)، إلا أن هذا العصر قد تميز بفساد الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فحوصرت الفضيلة التي هي من صنع التقدم الفكري والاجتماعي حتى صار الانحراف ضرورة اقتضاها سير الحياة العامة وقوانينها. (محاضرة 81). ولأن فساد الأخلاق جاء نتيجة لفساد، أكثر مما هو نتيجة لانحلال الغرائز (رفات 70)، فقد اختلت المعتقدات التي تقود حياة الأمة حتى حادت عن طريق الحياة المثلى وضاعت فضائلها:
يا سائلي عن فضائلٍ مُدحتْ
أهي خيالٌ يُروى ويُُبتدعُ
لا رأي عندي فيها، فلست أرى
في الأرض ظلاً لها، فأقتنع
(نهايات 182)
ويرى شحاتة أن الخروج من هذه الأزمة الأخلاقية لن يتحقق إلا عن طريق فضائل ليس لها مرام خفية، فضائل أصيلة كائنة في ذاتها ولذاتها، وليس للتستر على رذائل الخليقة وحجب (نزعاتها الأصلية)
(رفات 55). هذه الفضائل الخاصة من نوعين، أولهما صادر من التعليمات السماوية التي تحملها الرسل للبشرية، وخاصة تلك التي نزل بها القرآن ودعا إليها، ذلك أن المتصف بها لا ينتظر مصلحة سوى المثوبة عند الله. وعليه فإن بصيرة الدين تضمن مكارم الأخلاق، وكل فضيلة من فضائل القرآن تضرب المثل الأعلى الكامل للقوة وحريتها، لذا فشحاتة يحث على الإيمان بها وطلبها وعلى التماسها وتمهيد المجال لظهورها (فهي أمل النجاة) ( محاضرة 83).
أما النوع الثاني ي من الفضائل الأصيلة فهي تلك التي تنبع من الاستجابة الاضطرارية للفطرة التي جبل عليها الرجل، فهو مطبوع على الرجولة التي هي كالجمال قانونها فيها لأنها قوة حرة بداخله تقوده وتقسره ليكبح جماح نفسه ويهب للقيام بالتضحيات فتكتمل رجولته، فالرجل (لا يكون تام الرجولة إلا متى أخذته نفسه أخذاً صارماً بفضائل طبعه وأخلاقه وإيمانه الصارم) (محاضرة 115). هذا النوع من الفضائل يظهر في النص وحوله سياج منيع يحجز خلفه المرأة، فعندما يقول شحاتة أنها فطرة في دم الرجال (محاضرة 119-118)، فهو يقصد الربط بين الرجال في سلسلة بيولوجية أشبه ما تكون بشجرة الأنساب التي لا تظهر عليها أسماء النساء. هذه الرجولة صفة خاصة بالرجال، فقد (ورثها الصحابي الجليل عن أبيه العربي الرجل، عن جده القديم الرجل، فكانت عماد مبدئه الإنساني الذهبي) (محاضرة 120). ورجولة الرجال هي الأساس في سلسلة الفضائل، (فلا فضيلة بلا إيمان ولا إيمان إلا بالعمل ولا عمل إلا بالقوة ولا قوة إلا بالرجولة) (محاضرة 121).