وتحدث المستشار الأستاذ محمد سعيد طيب، ومما قال بعد مدحه والثناء عليه، وهو أحياناً يثير أعصابك حين تجلس معه بأدبه الجم يذكرني بالشيخ علي الجفالي يثير أعصابك حين تجلس معه بأدبه فلا يصدر منه شيء يغضبك ولا تسمع كلمة تتيح لك الفرصة بأن تجد طريقك عليه، والحقيقة أن ما يتمتع به الرفاعي قدرته على أن يثيرك بأدبه الجم.. والأستاذ الرفاعي يظن بعض الناس أنه رجل سمح يمكنك أن تأخذ منه ما تريد بسهولة، لكن هذه الحقيقة في بعض الجوانب لها شيء مهم.. أنا أضرب مثلاً على ذلك، ذات مرة كنت أستطلع رأي أحد السعوديين في أن نطبع له كتاباً، فقال لي: والله فيه شبه اتفاق بيني وبين الأستاذ الرفاعي على أن يتولى الأمر عن طريق دار الرفاعي.. والحقيقة كان يهمني ذلك الأديب بعينه، وكنت أتمنى أن تقوم تهامة بنشر وإصدار كتابه، وأخذنا الغرور وقلت له: هذا أمر بسيط جداً، سوف أتفاهم مع الأستاذ الرفاعي، وأنا واثق من نفسي، فالمطلوب ليس أمراً صعباً، وسوف أستخدم مكانتي عند الأستاذ الرفاعي، ولم يسبق لي أن طلبت منه شيئاً، فأول ما طرقت الموضوع، فإذا هو بأدبه الجم يقول لي: والله هذا الموضوع تقرير..
قلت له: ماذا يعني تقرير؟
قال: تقرير بالمفهوم المتعارف بين الطرفين..
قلت له: ولكن يا أستاذ قد ألغيت التقارير كلها.
قال: هذا فيما يتعلق بالمطوية، ولكني لم ألغها من قاموسي.. حاولت بكل الطرق والوسائل في الحصول على الكتاب حتى تقوم تهامة بطباعته، لكن كل محاولاتي ذهبت أدراج الرياح حيث أنهى المحاولات بقوله: والله قد صدر الكتاب عن دار الرفاعي.
ويمضي حديث المستشار الأستاذ: وسمعت مرة أن الأديب نفسه نشر قصة جميلة له على حلقات في ملحق جريدة (المدينة)، فحاولت الحصول عليها للقيام بطباعتها، لكني فوجئت بالأستاذ الرفاعي يقول لي: ألم أقل لك إنه تقرير، وأنا لم ألغ التقارير، لا تحاول أبداً.. هذه الحقائق تبرهن أن الرفاعي رجل متسامح ورجل متواضع، ولكنه في بعض المواقع والمواقف يكون صلباً عنيداً جداً. ومن جهة أخرى فلا يخلو من توريط الآخرين، فهو الذي أوقع تهامة وساهم إلى حد كبير في توريطها في موضوع النشر، ولكن هل تعلمون كيف تم ذلك؟ عندما علم عن رغبة تهامة في القيام بدور النشر، وكنا نعتقد لكونه سابقها في هذا المجال أن تغلب عليه الغيرة كبشر ويحاول تثبيط هممنا عن السير في طريقنا، ولكن فوجئت به يبعث إليَّ خطاباً ينضح بكل التقدير وبكل الإشادة، وبكل الدعاء المخلص لنا بالتوفيق.. وقد اعتبرت الخطاب الذي أرسله إليَّ خطاب مجاملة لا أقل ولا أكثر، ولكن الأمر لم يقتصر على الخطاب، بل دعم ذلك بالاتصال الهاتفي، والاتصال الشخصي والزيارات المتكررة في مكتبي بين فترات متقاربة، فدعوت الله أن يكون عونا له ولنا، فنحن نستقل مركباً واحداً، إن نجا نجونا جميعاً، ويظهر أن المؤشرات الآن تشير إلى أن المركب يتأرجح، ولكن نسأل الله أن يخيّب ظن الأستاذ عبد الرحمن المعمر، وأن يفيق المجتمع إلى قيمه وإلى ما ينبغي أن يكون عليه، ويعتني بما يضع في رأسه أكثر من عنايته بما يضعه في رجله، واختتم قوله: (هنا خبر أحب أن أقوله قد لا يعرفه الإخوان، وهو أن الأستاذ عبد العزيز يسعى في صمت وفي دأب بدون دعاية إلى تأسيس مشيخة للناشرين، إن شاء الله سيكون شيخها، لأنه بلا جدال رائد النشر في المملكة العربية السعودية).
وتحدث بعد ذلك الأساتذة عبد الله رجب، عبد الرحمن المعمّر، ومنصور بن سلطان، وأخيراً كلمة المحتفى به الأستاذ عبد العزيز الرفاعي فقال رحمه الله تماشياً مع تواضعه وأدب نفسه الجم: (دهشت جداً عندما أصر عليَّ صديقي، وهو صديق قديم، الأستاذ عبد المقصود خوجه أن أحضر هذه الليلة، فقد حاولت أن أتفلت منه، لأني أعتقد صادقاً ومن أعماقي أنني لا أستحق إطلاقاً أن أدرج في قائمة أولئك الرواد الأمجاد الذين قطعوا أشواطاً طويلة في سبيل الأدب والفكر، لم يكن لي في كل هذا نصيب يذكر، ولكنني خشيت أن أغضب صديقي عبد المقصود، وأنا أتحاشى جداً أن أغضبه، وما كنت أتصور هذا الإغراق في الثناء والإطراء.. وأفضل الرجل بذكر وشكر الأسماء التي تحدثت ليلتها، وأعطى كل واحد حقه من التقدير وذكر المحاسن، والعلائق الوشيجة التي تربطه بهم وتربطهم به.. وإذا قصرت في مد النفس لآتي على ما قالوا وقال، فأرجو من الأحبة وهم بفضل الله كثر، أن يرجعوا إلى المجلد الأول من كتاب الإثنينية ليستمتعوا ويطلعوا على ما فيه من خير ووفاء وحفاوة وأدب نفوس قبل أدب الدرس، والحمد لله أولاً وآخراً).
* * *
وألف الأستاذ أحمد سالم باعطب كتابين طبعتهما الاثنينية، عنوان الأول: (عبد العزيز الرفاعي - صور ومواقف -، من المهد إلى اللحد) صدر في عام 1416هـ، الموافق 1996م، والتالي صدر في عام 1418هـ، 1997، يحمل العنوان الرئيس، مضافاً إليه، أديباً شاعراً وناثراً، وتصفحت الكتابين، ورأيت أن المؤلف أسرف في زخم إنشائي طويل وممل للقارئ، ثم إنه كان يسعه أن يجعل الكتابين كتاباً واحداً، واختصر ما كتب عن الأستاذ الرفاعي في الجزء الأول لأحسن صنعاً ورفق بالقارئ المحب لأديبنا، لو أنه أجمل لأجاد، لأن في الإيجاز بلاغة كما قالت العرب، ولعل أولى الإطالات المقدمة، وما دام الحديث موصولاً وكله للكاتب، فإنه كان ينبغي تقديم الكتاب في سطور لا يشغل حيزاً محدوداً من صفحة واحدة، وذلك أجدى، لأن الإطالة قد يكون الكاتب ليس صاحب المتن أي النص بكامله، أما هذا التطويل الإنشائي الحشو فلا يحسب للمؤلف ولكنه يحسب عليه، لأن الإطالة من فضول الكلام، ولا سيما أنه خلو من المضمون، فعنوانات المؤلف طويلة والإطالة في حشو الصفحات، وليس صحيحاً ما يقال إن المكرر يحلو، إذ ليس كل مكرور يحمل هذا الوصف، والتطويل الإنشائي لا معنى له، وإنما هو ثقيل ممل، وأنا عرفت الأستاذ باعطب شاعراً، فدخوله على النثر يشبه المفاجأة لمن عرفه، وإن كان أكثر ما قدم هو فيه ناقلاً ومجمعاً.. وأنا أدرك أن أديبنا الكبير عبد العزيز الرفاعي قد أحسن للأخ أحمد باعطب كما أحسن للكثيرين وأنا منهم، غير أن ذلك الجميل الباقي لا يجعل رده إسرافاً في الثناء الذي قد يسيء أو يساء تقديره.. ورفضي لذلك السرد الاستعراضي والاستطراد غير المحدود والجمل الطويلة والمطولة حشو سيئ، وحين صدر هذان الكتابان، كنت مثقلاً بهموم وشجون النادي الأدبي الثقافي، فلم يتح لي قراءتهما وقت صدورهما. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنه ندر أن يقرأهما أحد من الغلاف إلى الغلاف، لأنا لا نقرأ، وإن قرأنا فإنما نختار ما يتصل بنا وبثقافتنا مباشرة، فلنا أولويات، والكثيرون منا ليس بمتاح لهم أن يطالعوا ما يجدوه أمامهم أو يقدم إليهم. والزمن غير الزمن، وقد انتزعت بركة أيامنا الحاضرة.. على أني أقول الحق، بأن جهد الأستاذ باعطب مشكور ومقدر ومحسوب له، وهو جهد ليس هيّناً، وليس الكثير منا بقادرين على هذا العمل الكثير لحياة وأدب وثقافة الأستاذ الرفاعي، وأنجز الشاعر باعطب ما قصرنا فيه، وليس بحق أن نقابل جهده المشكور بالجحود والنكران والتقليل من قيمته والتهوين من قيمة أداء المؤلف، فجمع مواد شتى في كتابين تتجاوز صفحاتهما الستمائة، إذا أدركنا أن تلك المواد من حياة الرفاعي والنصوص الممثلة لأدبه نثراً وشعراً، من خلال مؤلفاته وجهوده الأدبية الكثير عدا التأليف، كل هذا الكم والزخم لا ينهض به إلا مخلص ذو عزم، وكان الباعطب كذلك، هذا حق لا مراء فيه، ولا تنقص من قيمته ملحوظات عابرة، فالرجل قد اجتهد ووفى وصنع ما يحسب له ويقدر، والذين يخطئون هم الذين يعملون، تصديقاً لقول من لا ينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء).. وحين أشير إلى نماذج في تعبير الكاتب لا أسيغها ولا يقبلها الذوق الراقي، فذلك وجهة نظر تحتمل الخطأ والصواب، واقرؤوا معي تحت كلمة (الإهداء) ما قال المؤلف: (هذه باقات عطرات، من الكلمات النضرات، والتي روت بماء الحب والوفاء والإخاء، ولطالما سقاني من ينابيعها الثرة العذبة بيده، كؤوساً مترعة رقراقة تنضح مودة، فسارت نوراً في شرايين قلبي، وعبق بين جوانحي عبيرها ندياً).. ويمضي المعبر في سطور الإهداء اليانعة الباسقة الوارفة الظلال، معذرة فقد عداني الباعطب، واقرؤوا شيئاً من باقة الإهداء، الذي كان ينبغي على الكاتب المجيد أن تكون كلمات في سطر ونصف، ليكون من المتقنين المتمرسين، قال في تتابع الإهداء، من ذلك الاستطراد المتجلي: (هذه الباقات الباسمة الفائقة) - لا أدري: أهي غادة باهرة في كلام الباعطب -، ويمضي ونمضي معه فالكلام مطرد ومتصل: وجوهاً وثغوراً هي عقود متلألئة ضياء ونوراً أهديها إلى من عرفوا عبد العزيز الرفاعي، رحمه الله، رجلاً مواطناً صالحاً، أميناً مخلصاً، عفيفاً صادقاً، في قوله وعمله، في السر والعلن، نظيف اليد والقلب واللسان - والحديث أو هاته الكلمات إلى ولاة الأمر حفظهم الله - فقال: (فأولوه ثقتهم وأكرموه، حياً وميتاً.. وإلى من لايزال حياً من معلميه وطلابه، وأقرانه ولداته، ورؤسائه ومرؤوسيه، وزوار ندوته، ومن راسلهم أو راسلوه، ومن تعرّف إليهم أو تعرفوا إليه، ولمسوا عن قرب سيرته الذاتية، أدباً وأخلاقاً، وسلوكاً عملياً زكياً، ورحلة أسرية واجتماعية محمودة، ومواطنة فخورة بانتمائها إلى تراب هذا الوطن الغالي، وأزفها إلى من عرفه متنقلاً حاملاً رسالة أمته، مبلغاً أمانة مملكته إلى حيث يؤمر).
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244