وأنا أتجول في بغداد المهدمة، بغداد عاصمة الثقافة المخربة، عثرت على شارع المتنبي في وطني. وتعبير عثرت هو التعبير المناسب والدقيق، لأنني تهت في وطني. ضعت. لا أعرف الشوارع. فشارع الرشيد الذي كان يزهو بثقافته ممثلا في صالات السينما والمقاهي الثقافية وتجوال المثقفين ولقاءاتهم بات مكسور الخاطر، مفكك الأوصال. آثار الحرب وحفر القذائف والطلقات على جدران مبان كانت في يوم ما خزينا ثقافيا مدهشا ورائعا لم نكن نعرف أهميته سوى عندما خسرناه. كنا نعيشه ولم نكن نعرف أهميته، لأنه كان مهماً دون أن يعلن عن أهميته في مؤتمر إو عبر إعلان تلفازي أو مفردة من مهرجانات الثقافة البائسة والإعلانية. اليوم يقولون عن بغداد عاصمة الثقافة العراقية. شيء يدعو للضحك حقا ولكنه ضحك كالبكاء.
عثرت على شارع المتنبي. شارع مكتبات وكتب وصارت الكتب على أرصفة الشارع. والمثقفون يمشون. وثمة مقهى تسمى مقهى «الشاه بندر» مزدحمة بالضجيج والأصوات العالية ورنين المعالق في «إستكانات» الشاي السوداء. محلات لصوص يغسلون أموالهم الحرام عبر الثقافة والنشر. وتعبير حرامي مأخوذ من كلمة الحرام. أي الشخص الذي يأخذ المال الحرام. قطعت الشارع في عشر دقائق. لم أكن راغباً أن أنظر إلى الكتب والعناوين. أردت أن أهرب مثل هروبي راكضا في شارع الرشيد كي أقطعه ولا أرى أوصاله المتقطعة. شاهدت أشخاصاً يبيعون الخواتم في شارع المتنبي التي صارت موديلات الانتماء للتيارات الدينية لكل من يريد أن يغير اتجاه ثقافته ليعلن انتماءه عبر الخاتم المحكم بالبنصر بحجرة تطرد الشر عن الكاتب وأخرى تجلب الخير له، وثالثة تفتح فرص نشر الكتب ورابعة تقنع الوزير بالدفع المضاعف لدعم الإنتاج لبغداد عاصمة الثقافة.
كل شيء تجده في شارع المتنبي الذي لو شاءت وزارة الثقافة لحولته إلى شارع نموذجي في النظام والتنفيذ والجمال لكنه دخل العشوائية مثل كل شيء في العراق، وتعبير العشوائية صار معروفا وأصبح مفردة شعبية متداولة وكذا الحال في الثقافة وفي شارع المتنبي. في أول الشارع يقف جنود مدججون بالسلاح يفحصون الداخلين للسوق حتى لا يحمل أحدهم حزاما ناسفا يودي بحياة المارة من المثقفين أو هواة الثقافة.
تراني لماذا أسرع الخطى للهروب من الشارع. ليس هو خوفا من متفجرة إذ لم يبق من العمر ما يستحق الخوف عليه. لقد ذهب الزمن الأجمل، الزمن الرياضي للركض في مساحات الثقافة ودروبها، ولم تبق سوى العكازة التي كان يحملها الكثير من الأدباء وهم يمشون في شارع المتنبي.
ليس هو شارعا طويلا فيمكن دخوله والخروج منه ببضع دقائق لكن زمنه يقاس بعناوين الكتب في مكتباته وعلى رصيفي شارعه. يجد المرء كتبا قديمة مفقودة. يجد عدداً من مجلة ثقافية بقايا غلاف وبقايا ورق وبقايا حروف لكن فيها نكهة الزمن الجميل الذي رحل.
الناس الذين يمرون في الشارع قد يجدون رفيق درب منفي أو رفيق درب تبحر كثيرا في ملامحه وهو صديق أكيد إليك. تبحر في وجهه ألست فلانا وآخر يسلم عليك وتقول له سامحني لا أتذكرك. ذكرني باسمك. تضحكان أو يبكي أحدكما أو كلاكما وسط أصوات المولدات الكهربائية التي لها قصص وحكايات تتعلق بالنهب والفساد والدولة المسماة مجازاً بهذا الاسم.
يضيع المثقفون الحقيقيون ويبكي المثقف الحقيقي وينزوي المثقف الحقيقي، ويأتي المثقف الحقيقي ليمشي مع الزيف عسى أن يموت دون أن يدري بصوت انفجار يسكت صوت مولدات الكهرباء ويعم الظلام في دور النشر والمكتبات والمقاهي، مع أن الجنود نائمون أو مخدرون أو مكبسلون كما يعبر عنه العراقيون. ومكبسل تعني قد تناول كبسولة مخدرة! يقفون في أول شارع المتنبي معتقدين بأن الشخص الذي يزرع الموت متخصص بحياة الأبرياء والمثقفون ليسوا أبرياء، وهم مثل السياسيين لأنهم مشهورون والجندي لم ير سياسيا ميتا بالمفخخات.. لايموت سوى الأبرياء والمثقفون ليسوا من الأبرياء.
سيدي الجندي وسيدي العريف وسيدي ضابط الشرطة والجيش في العراق.
هؤلاء حملة الثقافة والفكر هم هوية الوطن وسبق وأن طالتهم المتفجرات والمفخخات، فالحكاية ليست حكاية شارع المتنبي. الحكاية هي حكاية الوطن العراقي الذي عرف بمثقفيه لا بساسته. فالساسة يأتون ويموتون ويرحلون وينتهون من ذاكرة الأشياء ولكن المثقف الحقيقي يبقى حياً.
عندما تسقط السياسية يسقط النظام
وعندما تسقط الثقافة يسقط الوطن!
اليوم سيدي الشرطي حامي حمى الوطن.
يمشي في شارع المتنبي هذا بقايا المثقفين، يمشون على العكازات.
ويمشي في شارع المتنبي هذا جيل آخر وقليل يحب الثقافة ويأتي لينظر إلى هؤلاء وكأنهم بقايا قوم على شاشة السينما من ذاكرة الأشياء.
المسافة بين بداية شارع المتنبي من شارع الرشيد المهدم ونهاية شارع المتنبي في بداية سوق السراي تبلغ بضعة عشرات من الأمتار. مزدحمة بالكتب وفيها مقهى واحدة هي مقهى «الشاه بندر» لا أدري لماذا يتحدث فيها المثقفون كلهم مرة واحدة وبصوت عال ولا أحد يسمع أحداً.
في نهاية الشارع من جهة اليمن وأنا آت من شارع الرشيد، أنا بالذات قرأت اللافتة المعلقة قبل مقهى «الشاه بندر» وانتابتني حالة من الغثيان. فدلفت نحو جهة اليسار وسرت في شارع السراي مسرعاً وبقايا أصوات متداخلة تتلاشى وتختفي، أصوات الماشين في المتنبي والجالسين في المقهى، ولم أفهم كيف يتلذذ المثقفون كل يوم جمعة بالمسير في هذا الشارع ومثل تلك اللافتة الحمقاء في نهاية الشارع من جهة اليمين في مواجهتهم دونما ردة فعل غاضبة منهم!. فهمت لاحقا أنهم يقتلون الزمن حتى لا يقتلهم ويأخذون القيلولة، وبعدها يذهبون مساء نحو شارع أبي نؤاس كي ينقذهم من المتنبي!
على قلق كأن الريح تحتي.. أحركها يميناً أو شمالا!
سينمائي وكاتب مقيم في هولندا في بغداد حاليا بشكل مؤقت
sununu@ziggo.nl
بغداد