Culture Magazine Thursday  25/04/2013 G Issue 404
فضاءات
الخميس 15 ,جمادى الآخر 1434   العدد  404
 
ليال بلا نوم أو القتلى تحت الأقدام
سيمون نصار

 

(1)

بلعت الحرب الأهلية اللبنانية 1975 - 1990 مئتي ألف جثة. معدةُ الحرب خاوية، دوماً تطلب المزيد، ريقها لا تبلله إلا الدماء النازفة كشلال لم يوقفه التاريخ ولا غزوات الجراد. لكن الموتى، رسمياً، هم الموتى. لا شيء يوقظهم أو يزعجهم في سباتهم الطويل. سباتهم الذي هو رحلتهم الأبدية نحو عالم لا حروب فيه ولا بشر سوى الموتى أقرانهم في التراجيديا والدراما والصور المستعادة لحكايات القتل والموت.

لكن هؤلاء قتلى لهم أسماء وجثت، لهم رفات، لهم عظام سكنت تحت التراب في أماكن كثيرة من لبنان. في الحرب يكفي أن يذكر اسمك في القوائم لكي يرتاح من بقي بعدك، أهلك جميعاً، تحديداً أمك. الأم لا يمكنها فراق ولدها، تبقى معلقة بالاسم المحفور في القوائم. أم الشهيد هي الوحيدة التي تدفع ثمن الحرب. تدفع فاجعتها من لحمها ودموعها ونحيبها. لا يوجد أقسى من أم تنتحب على قتل ولدها. يبقى هذا المشهد، الأكثر حفراً في ذاكرة كل من شاهد نتائج حرب، سواء في الواقع أو على الشاشات.

لكن، حتى هذه الأم، رغم الفاجعة تبقى بذاكرة متوازنة. من مات مات، الحياة تستمر بكل حرقاتها وألمها وعليها أن تستمر، الله يريد ذلك، وما يريده الله هو الذي في النهاية سيكون. لكن حرب لبنان تركت قتلى خارج القوائم. تركت أمهات لأبناء أو أخوة أو زوج خارج القوائم. موتى لم يحسم أمر موتهم. هنا الفاجعة مضاعفة، قاتلة. كيف يمكن لأم أن تحمل اسم ولدها على ظهرها كل سنوات ما بعد الحرب وهي تبحث عنه بين الوجوه وبين الصور. ومن هذه العينة بالتحديد، تركت الحرب الأهلية اللبنانية 17 ألف مفقود و17 ألف أم مفجوعة يدوخ رأسها كل يوم في رحلة البحث عن فقيدها، سواء بحثت عنه في الطرقات أو البومات الصور أو في ذاكرتها. أو في الصراخ المتقطع، أو في النحيب الذي تكتمه في قلبها ولا تظهره في أغلب الأحيان. لكن المأساة تبقى مرسومة على ملامحها وفي حياتها كندبة لا يمكن محوها.

يبقى المفقود حياً في قلب أمه وذاكرتها حتى تأتيها عظامه، أو حفنة من ترابه. يبقى الميت المؤجل حتى يخرج من قلب الأرض ليعود إليها مرة ثانية تحت نظر أمه ورعايتها. يبقى الميت. لكن الجانب المظلم من الحرب هم ضحاياه المستمرون بإستيلاد الأمل من قلب التربة. الأمهات اللواتي يبحثن في تراب الوطن عن رائحة تصلهن بما انقطع عنهن في زمن سابق. الزمن الذي لا يزال مستمراً في وعي الأم وفي قلبها وحياتها ويومياتها. نكدٌ مستديمٌ لا دواء له ولا شفاء منه. لكن مع ذلك، فإن سؤال الحرب وحده مؤرق ويحيل البلاد إلى ذاكرة الأيام السوداء.

ليس أصعب من أن تخرج من حرب بلا اسم بل عنوان بلا شاهد قبر بلا عظام بلا تراب بلا مصير، فقط بذاكرة الأم. وليس أصعب على أم من أن لا تعرف مصير ولدها سجيناً أو مقتولاً أو حياً يعيش في عالم آخر وبلاد ثانية.

(2)

طرح الفيلم الوثائقي الذي أخرجته اللبنانية إليان الراهب «ليال بلا نوم». طرح قضية لا تزال تمثل الجانب الطري من ذاكرة الحرب التي دارت رحاها على أرض لبنان الصغيرة جغرافياً. الجانب الرطب بدموع الثكالى والمفجوعات على فلذاتهن. قضية المفقودين جراء الحرب اللبنانية التي مضى علي نهايتها الفعلية وإزالة المتاريس أكثر من عقدين.

المفقودون جراء الحروب الأهلية اللبنانية المتتالية ليسوا عشرات أو مئات. الرقم الرسمي لإحصاءات ما بعد الحرب بلغ سبعة عشر ألفاً من الذين اختفوا عن وجه الأرض. لا شيء حتى اليوم أسهم في كشف مصير هذا الرقم الضخم. فأمراء الحرب اللبنانية، الذين أشعلوا المعارك وحرضوا على القتل هم الذين جلسوا على الطاولة ونصبوا السلم وأقروا قانوناً للعفو عنهم، هم قتلوا وهم كانوا القضاة فحاجموا أنفسهم بالعفو العام والشامل. هم القتلة الذين عفوا عن أنفسهم دون أن ينظر الواحد منهم للوراء قليلاً أو حتى ينظر إلى ضميره. على هذا لم تخرج طوال فترة السلم الأهلي غير الناجز معلومات كثيرة عن من خطف ومن قتل ومن سحل ومن دفن حياً ومن رمي في بئر ومن قتل على الهوية وركن إلى جانب الطريق ومن سجن وقتل في أثناء المعارك ومن صلب ومن وضع في خزانات المياه حتى الموت ومن دوّب بالأسيد فلم يبقى منه سوى شعره وأسنانه، وباستثناء قضية الديبلوماسيون الإيرانيون الأربعة الذين فقدوا أثناء الحرب، على أحد حواجز القوات اللبنانية، لم يتحدث كثيرون عن هذه القضية بعمومية قبل هذا الفيلم.

أتت إليان الراهب بمريم السعيدي، سيدة خمسينية أفقدتها الحرب ابنها الذي كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً. ماهر قصير الطفل الذي ذهب إلى الحرب لقتال إسرائيل مع قوات الحزب الشيوعي اللبناني فقد أثره في معركة جرت في 17 حزيران 1982 على أرض كلية العلوم في الجامعة اللبنانية - الحدث. وهي ما أصبح فيما بعد تجمع لعدد من كليات الجامعة اللبنانية. يقول أسعد الشفتري ( الذي كان قيادياً في القوات اللبنانية ) أن هذا المكان يضم مقبرة جماعية لكل من تم إلقاء القبض عليهم وقتلهم ودفنهم في المكان نفسه. من قتل هناك؟ كم جثة تحت الأرض؟ أين هو مكان هذه المقبرة بالتحديد؟ لم يقل أحد من قبل. في لبنان، بعد توقيع معاهدة السلم بين الأطراف المتحاربة ألغي بالكامل الحديث عن المقابر الجماعية. تم التوقيع على السلم ونسيان كل ما جرى في الحرب. لهذا السبب بقي لبنان يترنح، على الأرجح بين الحرب والسلم بذاكرة مثقوبة تهرِّبُ القتلى كما تهرب العصابات الشعوب المقهورة في سفن الموت إلى عالم الأحلام. الشعوب التي بلا ذاكرة يقظة ومتوثبة لا يمكنها أن تخرج من قلب المأساة. الفيلم الذي اشتغلته إليان الراهب يمثل الخطوة التحريضية الأولى باتجاه نبش الذاكرة.

كثيرة هي الأفلام التي تناولت الحرب الأهلية اللبنانية، لكن يسجل للراهب في هذا الفيلم أنها الأولى التي تناولت قضية بالغة الحساسية يعتبر المساس بها من المحرمات. فالذين خاضوا الحرب وارتكبوا المجازر وحفروا مقابل جماعية ليسوا طرفاً واحداً. إنهم كل أطراف النزاع السابق. حين أشعلت النيران في لبنان بين الجميع ولذلك فالجميع يخشى ولا يزال فتح هذا الملف الذي ربما قد يكون سبباً رئيسياً في إعادة المتاريس.

الملفت في هذه النوعية من الأفلام، أنها تعتمد على شهادة طرف مسيحي دوماً كطرف مذنب. في فيلم لمونيكا بورغمان (المجزرة) الذي أنتج 2004 وتناول مجزرة صبرا وشاتيلا، اعتمد المخرجة الألمانية علي شهادات من مقاتلين شاركوا في المجزرة قتلوا وذبحوا أناساً أبرياء عاديون لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا في عين الهدف. لكن هذا الطرف كان الطرف المسيحي. كما هو في فيلم الراهب لكن الفارق الوحيد أن الطرف المسيحي في فيلم الراهب كان الشخص الوحيد بعد إنتهاء الحرب الذي اعترف كجزء من تطهره من خطاياه بما حصل. وضع شهاداته كاملة لكن نقص المعلومات وتكتم الأطراف كلها دون استثناء يجعل من الشرتوني وجهة لكل من يبحث عن مفقود.

لم تشتغل الراهب فيلماً، الأصح القول أنها أعادت إنتاج الحرب. لكن هذه المرة دون حضورها فعلياً، بل حضور أبطالها وضحاياها معاً وجها لوجه. يخبرنا بذلك اللقاء الذي تم بين مريم السعيدي والشرتوني في معرض جمع صور المفقودين جميعاً.

المفقودون في الصور المعلقة علي حبال كما ظهر في الفيلم هم ذاكرة لبنان الغائبة، هم لبنان الذي يعود كما هو كلما ظهرت الصور وكلما ناحت الأمهات. هو لبنان المرشح للعودة منطقة للغليان ومقبرة للموتى.

simnassar@gmail.com باريس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة