البنيوية في سياق النظريات المتوالية تجاه الأدب والفن، منعطف اختلاف بأكثر من وجه. وأبرز وجوه اختلافها أنه تم طرحها بوصفها منهجاً أو طريقة معرفية لقراءة الظواهر الإنسانية والثقافية ومنها الأدب، فهي ليست فلسفة ولا مذهباً في الأدب، ولا منهجاً خاصاً به دون غيره من منتجات الثقافة والظواهر الاجتماعية والإنسانية. وإذا قسنا البنيوية –من هذه الوجهة- على نظريات الأدب السابقة عليها، وهي: المحاكاة والتعبير والخلق والانعكاس، فسنجد أن كل واحدة منها ارتبطت بمذهب أدبي بعينه، فكانت المحاكاة للكلاسيكية والتعبير للرومانسية والخلق للفن من أجل الفن والانعكاس للواقعية.
صحيح أن المنطق النظري لا يتحقق لأي منها ما لم تصدق على الفنون عامة أو تجمعها في مبدئها التفسيري، ولا يتحقق وهي تختص بعض الأدباء أو العصور أو الطبقات... إلخ لكنها كانت تتبادل نوعاً من الاعتماد مع تلك المذاهب التي اصطبغت القيمة في كل منها بمنطق النظرية المتصلة به مثلما استمدت النظرية من المذهب وجودها الأدبي المجسّد.
أما البنيوية فكانت تتوجه لقديم الأدب وحديثه دون تفريق بينهما ولا انتقاص من أحدهما وإعلاء للآخر، وكان تشارُك ليفي شتراوس ورومان ياكوبسون في اختصاص سونيتة بودلير «القطط» بدراسة بنيوية عام 1962م، مماثلاً –في هذا المعنى- لنشر رولان بارت في مرحلته البنيوية دراسة بعنوان «عن راسين» (1963م) بل كانت التحليلات البنيوية التي قام بها أعلام البنيوية في فترة نشوئها وازدهارها في فرنسا، مثل: «الأبنية الأولية للقرابة» و»العقل الوحشي» لشتراوس و»الجنون والحضارة» لفوكو و»المفاهيم الأساسية للتحليل النفسي» للاكان و»نظام الموضة» لبارت ... إلخ الامتداد المنهجي للبنيوية بين تحليل النصوص الأدبية وغيرها من مظاهر الدلالة وظواهرها. وهناك بنيات رياضية ومنطقية وفيزيائية وبيولوجية، على نحو ما يفصل جان بياجيه في كتابه «البنيوية».
وكان هناك جانب في نظرية الأدب منبثق عن حقول المعرفة الإنسانية المجاورة للأدب. فالتاريخ يبحث في الأدب عما يبرهن على وجوه التغير والتمايز بين البيئات والعصور والأفراد، ولذلك فإنه يفسِّر الأدب من زاوية الحدوث في الزمن. ولا يرى علم النفس أو علم الاجتماع في الأدب مسافة أبعد من الشهادة على النظريات النفسية والاجتماعية، أو إحالة الأدب إلى متن للملاحظة التي تتجاوب مع مادتهما المعرفية وفرضياتهما. وقد استُخْدِمت العلوم الإنسانية والاجتماعية لتحليل الأدب وقراءته بما لا يرفد المعرفة به من حيث هو بنية مكتفية بنفسها ولا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية عنها.
والبنيوية تختلف عن ذلك، إنها لا تستعير منظور معرفة غير أدبية لقراءة الأدب، ولا تتساءل عن علة الأدب ومصدره مثلما تتساءل عنهما علوم التاريخ والنفس والاجتماع. فبنية الأدب ثابتة من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق عبرها في المجتمعات والعصور وأفراد الأدباء، والسؤال عن مصدر لبنيته أو علة هو مثل السؤال عن سبب أو مصدر لمعادلة رياضية أو كيميائية، فتكوُّن التسعة من ثلاثة وستة، ومن عشرة ناقصةً واحداً، ومعادلة الماء من اتحاد الهيدروجين مع الأكسجين (H2O)... إلخ لها طابع غير زمني أي أزلي، وهذا ما تراه البنيوية سمة للبُنَى في العلوم الإنسانية، فهي تركِّز جهدها للبحث عن صفة الثبات فيها، وما يطرأ من تحويلات أو تنوع أو إضافة هو حدوث ضمن إطار البنية التي تصبغ العناصر بصبغتها وتظل دوماً محتوية على قوانينها ومكتفية بذاتها دونما حاجة في إدراكها إلى اللجوء إلى أي من العناصر الغريبة عليها.
وقد تميزت البنيوية عن غيرها من مقاربات الأدب السابقة عليها والتفسيرات النظرية له، بالإفادة من علم اللغة في الطموح إلى علم يتخذ الأدب موضوعاً له. وفي هذا الصدد يقول رولان بارت: «انبعثت البنيوية من علم اللغة، وفي الأدب تجد موضوعاً انبثق هو نفسه من اللغة، ونستطيع من ثم أن نفهم لم ينبغي أن ترغب البنيوية في إنشاء علم للأدب أو –على نحو أدق- علم لغة للخطاب، يكون موضوعه لغة الأشكال الأدبية مفهومةً على مستويات مختلفة». وكان نفي البنيوية للتصورات النظرية التي ترتِّب الأدب على شيء خارجه، وسيلتها لإحداث تغيير في تحليل الأدب ودراسته يماثل امتلاك العلوم الطبيعية لمنهجية العلم الدقيقة. وهذا هو أفق البنيوية الذي سارت نحوه في تطبيقاتها في العلوم الإنسانية.
لكن هذه الوجوه من الاختلاف بين البنيوية وبين النظريات والمناهج السابقة عليها لم تمنع البنيوية من مجاوزة حدود الطريقة أو المنهج إلى امتلاك تصورات عامة في النظر إلى الأدب وتكييفه. وأبرز ما يمكن أن نتنبه إليه هنا هو انشغال البنيوية بالشعر وتأثيره على صياغة مفاهيمها الجمالية. فالبنيوية في تصورها للأدب تحيل على الوظيفة الجمالية التي تَنْتُج عن التركيز على الرسالة نفسها بحسب خطاطة ياكوبسون في تحديده لوظائف اللغة موزَّعةً على عناصر الاتصال. تلك الخطاطة التي قدَّمها تعقيباً ختامياً بعنوان «اللغويات والشعرية» في مؤتمر «الأسلوب في اللغة» بجامعة إنديانا عام 1958م، وغدت أصلاً مكيناً من أصول الشعرية البنيوية. والمجلى الأوضح للوظيفة الجمالية بهذا الحسبان هي الشعر.
وقد رأينا غلبة الشعر ورجحانه في النقد الجديد الذي كان هو الآخر يطالب بتركيز النظر على النص لكن من دون تبلور مفهوم البنية وما ترتَّب عليها من تصورات معرفية عامة لدى البنيوية. كما رأينا غلبة الشعر في نظرية التعبير التي كانت المعادل النظري للرومانسية لكن من دون التركيز فيها على النص بل على الشاعر أي على الوظيفة الانفعالية والعاطفية في خطاطة ياكوبسون. وهذا يقودنا إلى ملمح آخر في البنيوية، فقد كانت بمجاوزتها التاريخ والواقع والمؤلِّف، دافقة بطابع التحرر والانفتاح، والمجاوزة لمركزية العرق والفرد والمجتمع، وكان ما تمكِّنُه للقارئ من الفاعلية الوجهَ الآخر لتمكينها الكُتَّاب وتحفيز طاقاتهم وإزاحة ما تضيق به أبواب الممارسة الإبداعية أمامهم، من المعايير الجامدة والعقول الموكولة إلى زمن معرفي عتيق.
ولهذا نجد عند رولان بارت هجوماً قوياً على الرومانسية والواقعية؛ فالرومانسية –فيما يصفها- «تحب الاقتصاد في الجهد، مدَّعيةً أن مبدعي الأدب أفراد أسمى يتصفون بالأصالة ويجب ألا يُخْلَط بينهم وبين الأنواع الأدنى من العمَّال». والواقعية –لديه- «تفهم الكتابة على أنها تمثيل لشيء موجود من قبل أن يبدأ الكاتب في الكتابة». ولا تستطيع هذه الأفكار –فيما يرى- أن تميِّز بين الأدبي وغير الأدبي، لأنها تطمس اللغة التي يعود إليها التمييز بينهما. وقد أفسح بارت مجالاً لوصف الواقعية بتشويه الأدب ومناهضته، لأنها تجعله خادماً للواقع، فترتِّبه في موضع الوسيلة إليه. وهي في هذا الصدد تعتقد أن اللغة شفَّافة، وأن من الممكن رؤية الحياة عبر الكلمات، ولذلك تصبح المعاني من وجهتها محدَّدَة المعاني مسبقاً في يد الكاتب الذي يستخدمها، فتغدو واضحة القصد والدلالة. وليس هذا هو الأدب لأن الأدب لا يخبر أو يعلِّم، بل يحرر اللغة من القيود والآلية التي يفرضها عليها استخدامها في الحياة اليومية.
ونجد بارت في مقال بعنوان «الكُتّاب والتأليف» نشره عام 1960م، يميِّز بين نوعين من المؤلفين، أحدهما يسميه «الكاتب» واللغة لديه وسيلة إلى معنى، ويشبِّه هذا النوع من المؤلفين بالفعل المتعدِّي في اللغة الذي يحتاج إلى مفعول مباشر، فهو كاتب يقصد أن يدل بكتابته القارئ على معنى واحد، وهو المعنى الذي يريد هو أن يبلِّغه إليه لا معنى غيره. أما الآخر فيسميه «المؤلِّف» واللغة لديه غاية لا وسيلة، فهو مثل الفعل اللازم في اللغة لا يحتاج إلى مفعول مباشر. إنه مشغول بالكلمات لا بالعالم. ويأخذ هذا الصنف لدى بارت مرتبة أعلى، وقد لا يكون العالَم الأدبي –فيما يرى- مستعداً له بعد ولكنه آت، إنه مؤلِّف المستقبل. وما دام الأمر كذلك فإن المؤلِّف الحقيقي الآن قد يكون مزيجاً من النوعين. وما نستخلصه من ذلك هو أن البنيوية تميل إلى الأدب الطليعي والمتحرر من أسر المعاني المحكومة سلفاً، وأنها ليست بلا موقف من الأدب.
لكن الأكثر أهمية في البنيوية هو تغييرها عادات التصوُّر للأدب وتلقِّيه، تماماً كما هو تغييرها للسائد من التصورات ودراستها في عديد من الظواهر والمظاهر الإنسانية والطبيعية. وقد انبثق هذا التصور الذي يشبه ما صنعته الثورة الكوبرنيكية من تحولات في علم الفلك، من أطروحات دي سوسير في علم اللغة العام، وأولها تمييزه بين «اللغة» و»الكلام» فإذا كانت اللغة هي النظام العام الذي يسبق الكلام، أي يسبق استخدام الفرد لها، وممارسته إيَّاها فعلياً، فإن دراسة أي ممارسة إنسانية دالة هي بمثابة الكلام، وكما أن موضوع دراسة اللغة هو النظام الكامن وراء الكلام، فإن موضوع دراسة تلك الممارسات الإنسانية والظواهر الدالة هو في اكتشاف النظام الكامن وراءها أي البنية التجريدية التي تجمع تلك الظواهر الجزئية وتوحد تعدُّدها وتجزُّؤها وتحولاتها.
ولا يقف الأمر عند ذلك، فاللغة في ضوء أطروحات سوسير تكتسب من حيث هي بنية تجريدية دوراً جبّاراً. فهي ليست كومة من الكلمات تشير إلى الأشياء، إن الكلمات لديه علامات تتكون من طرفين متصلين ببعضهما اتصال وجهي الورقة، أوَّلُهما الدال (كلمة -مثلاً- منطوقة أو مكتوبة) والآخر المدلول، وهو ما نفهمه من الدال. والمهم هنا أنه لا مكان للأشياء، فلا تكتسب الكلمة معناها من صلة بينها وبين الشيء، إذ العلاقة بين الدال والمدلول «اعتباطية» وليست طبيعية. وعلى ذلك فإن الكلمة في الكلام لا تكتسب معناها من ذاتها بل من العلاقات الاختلافية مع كلمات أخرى على محور البدائل لها وعلى محور تركيبها مع ما يسبقها وما يلحقها.
وكان التقدُّم الذي أحرزه علم الصوتيات، متصلاً بالأهمية التي تمثِّلها أطروحات سوسير، حتى لقد قال شتراوس قبل أن تتكامل حلقات البنيوية: «إن علم الفونولوجيا يمكن أن يؤدي لعلوم الإنسان ما أدته الرياضيات للفيزياء الحديثة». فالفونيم (وقد جرى تداول ترجمته بالصوتيم) هو –بحسب بلومفيلد- أصغر وحدة صوتية تُحدِث تغييراً في معنى الكلمة (مثل السين حين يغيِّر معنى صار إلى سار) وأهميتُه –من ثم- ليست في نطقه صوتاً فعلياً بل في الفرق الذي يُحدِثه بين صيغته وصيغ الفونيمات الأخرى في اللغة، إنه مفهوم مجرد من الصوت. وقد تجلَّت أهمية الفونيم في تمثيله على أهمية وظيفة العنصر الدلالي وليس مضمونه، فلعب في البنيوية دوراً موجِّهاً إلى ما يشبهه من العناصر الدلالية في الحياة، من حيث اختلافها عن غيرها، وإحداثها تغيُّراً في الدلالة مثلما يغيِّر الفونيم معنى كلمة.
ولم تكن البنيوية سوى وعي لاستثمار علم اللغة إجمالاً في سياق من التضافر مع جوانب من الشكلية الروسية والنقد الجديد والفلسفة الظواهرية والجشطلت، ليخرج من ذلك فكرة منهجية منسوبة إلى البنية التي تبقى دائماً مجردة لا يمكن مواجهتها في شكل موضوع مباشر، لأنها –بحسب وصف جيرارد جينيه- «أنظمة من العلاقات الكامنة، تُتَصوَّر أكثر مما تُدْرَك، يُنشئها التحليل عندما يكتشفها». وقد ميَّزها جان بياجيه، بثلاث صفات: أولها، الكُلِّية أو الشمول فعناصر البنية تخضع لقوانين تميِّز المجموعة من حيث هي مجموعة، ويبدو أثر الجشطلت، هنا في أسبقية الكل على الأجزاء، وأن الكل أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة. فقوانين البنية تضفي على الكل خصائص المجموعة المغايرة لخصائص العناصر.
وثاني صفات البنية، التحول، وهي صفة قائمة على تصور البنية من حيث تمسُّكها بقوانين تركيبها، ففي هذه الحالة لا يمكن تصوُّر البنية دون قيامها على مجموعة من التحويلات. ويلتفت بياجيه إلى نقطة دقيقة هنا، وهي الافتراض بأن البنيات لا تحتوي على تحويلات، إنها تختلط مع أي أشكال سكونية، وتطرح –عندئذ- مسألة مصدر هذه التحويلات أو علتها، أي أنها تفقد صفتها وشرطها البنيوي. أما ثالث صفات البنية فهو الضبط الذاتي، فهي تضبط نفسها ويؤدي هذا الضبط الذاتي إلى الحفاظ عليها، وبذلك لا تؤدي التحولات الحادثة في بنية معينة إلى خارج حدودها وإنما تولِّد بشكل لانهائي عناصر جديدة تنتمي دائماً إلى البنية وتحافظ على قوانينها، فحين نجمع -مثلاً- أو نطرح عددين صحيحين نحصل دائماً على أعداد صحيحة.
وقد تُرجِمتْ هذه المبادئ لدى البنيويين في دراسات بنيوية تقطع مع التاريخ والواقع والمؤلف. فقد كانت البنيوية وجهة عقلية معادية للنزعة التجريبية، وتسعى إلى تفسير ما تتصدَّى له من موضوعات عبر مبادئ عقلية، وذلك على عكس التجريبية والواقعية في إرجاعهما مبادئ العقل إلى التجربة والواقع. كما كانت البنيوية معادية للنزعة التاريخية التي تفسِّر الظواهر بإحالتها إلى علة تسبق النتيجة، وسابق يتحكم في ما يلحقه. وكانت نتيجة ذلك بحث البنيوية –دوماً- عن وجوه الثبات فيما بين الاختلافات، ومحاولة الكشف عما يتضمنه العقل الإنساني من صور وقوانين وقوالب ثابتة، يتسع بعضها أو يتعقَّد، ولكنه –أبداً- توليد وتحوُّل في إطار ثابت.
الرياض