«لاشيءَ يبنى فوق الحجر، بل كل شيءٍ يبنى على الرمل، بيد أن واجبنا أن نبني وكأن الرمل حجرٌ»
خورخي بورخيس
* يرى جون لوك أنّ الإنسان يولد وعقلهُ صفحةٌ بيضاءُ خاليةٌ من الكتابةِ، وإن كان هذا الأمرُ يصعب إثباتُه أو نفيه - أو يكادُ أن يكون مستحيلاً- فإنّه من المؤكّد أنّ هذا العقلَ لا يمكنُ أن يظلَ على «بياضهِ» ما دام صاحبُه على قيدِ الحياةِ، فلا بدّ أنه خلال حياته قد راكم شيئاً من المعرفةِ أو الثقافةِ على اختلافِ أنواعها وتعدّد معانيها.
* وبرغمِ ذلك فإنّه يصعب الاعتقادُ بأنّ المعرفةَ عمليّةً تبدأُ من الصفر، وهي عمليّةٌ يمكن تشبيهها بسباقِ التتابع، فكلّ مفكّرٍ هو عدّاءٌ يبدأ من حيث انتهى الآخرون وهو بالتالي يمارسُ ما يمكنُ تسميته بعملية «التجميع»، وسواءٌ أكانت نقطةُ البدءِ في هذا السباقِ فكرةً داخليةً نثق بصوابها ثمّ نخرج بها إلى العالمِ الخارجيّ لتأكيدها أو نفيها بحسب ديكارت، أم كانت تلك النقطةُ هي الطبيعةُ الخارجية التي تثيرُ إشكاليات تستوقفنا فنرتدّ بها داخلياً من أجل تقييمها والتأكد من صوابها كما يرى بيكون، فإننا في هاتين الحالتين نكونُ كمن يدور في مجالٍ مغناطيسيٍ يجذبنا نحو جهةٍ ما!
* في الحكايةِ، كان هنالك ثلاثُ عنزاتٍ تقرّر كلُ واحدةٍ منهن بناء بيتٍ لها اتقاءَ البرد، وكانتِ الأولى قد بنته من قشٍ استسهالاً، والثانيةُ وجدت في الخشب ما يكفيها، وأما الثالثةُ فجعلته من قرميدٍ، وكان الذئبُ يتربّصُ بهن -كالعادة- وفي حين تمكّن الذئب من النفخ على بيتي الأولى والثانية والإطاحةِ بهما بسهولة، فقد عجز عن ذلك أمام بيت الثالثة!
* في هذه القصة ما يغنينا عن شرح المراحل المعرفيّةِ بإسهاب، ففي «القش» تجميعٌ بلا وعي، وفي «الخشب» تجميعٌ بلا ثبات، ولا بد لك كي تصلَ إلى القرميد من المرورِ بالمرحلتين السابقتين، ويغدو القرميد تجميعاً تراكمياً أفقياً وعمودياً على حدٍ سواء، والاعتبار من التجاربِ السابقةِ الناجحةِ منها والفاشلةِ، بمعنى آخر يضمّ القرميد التجميع والبناء!
* الثباتُ لا يعني الجمود، فالحركةُ أساسُ الكونِ لا السّكون، «والفرق بين مجتمعٍ جمدت دماؤه في شرايينه فتخلّف عن موكب الحضارة، ومجتمعٍ آخرَ توقّدت فيه الصحوة وتوثّبت الهمم، هو فرقٌ بين مجموعة الأفكار التي حصلها واختزنها أفرادُ الناسِ في كلٍ من الحالتين» كما يرى زكي نجيب محمود، وما يحسن بالمرء الثبات عليه هو الغاية البعيدة والتغيير لا يعني التلوّن بالضرورة، ما دامت طبيعة الكون أساساً متغيرة، أ لم ترَ إلى النباتِ يتتبّع مواضع الشمس ليحيا وليقوم بعملية «البناء الضوئي» ومن ثمّ يؤول إلى أصلٍ ثابتٍ وفرعٍ في السماء!
القاهره