قبل أن نقف على المرحلة التي بدأ فيها جبير المليحان كتابة قصصه، إلى جوار عدد من مجايليه وسابقيه، من الأسماء التي أثرت حياتنا الأدبية بإبداعاتها القصصية، أمثال عبد الله السالمي، ومحمد علوان، وحسين علي حسين، وعبد الله باخشوين، وجار الله الحميد، وفهد الخليوي، وعبد العزيز مشري، وغيرهم ممن انهموا بارتياد هذا الحقل وأبدعوا في اختطاط مساراته الفنية المختلفة، كان لا بد من الإشارة إلى مراحل سابقة، كانت مختبراً ومفازة لكتّاب القصة، الذين وضعوا المقدمات وساهموا في تدشين مرحلة الريادة لهذا الفن في بلادنا.
ولكي أعد لهذه المقدمة القصيرة، فقد اطلعت على عدد من الدراسات النقدية، والمؤلفات البحثية الرصينة، ووجدت أن جهدي لن يتجاوز الاختصار المكثف لما تضمنته تلك الجهود من معلومات ونصوص وتحليلات، أعد أبرزها ما كتبه عدد من الأكاديميين حول مسيرة نشوء وتطور القصة القصيرة في المملكة، وفي طليعتهم الدكتور محمد الشامخ، والدكتور منصور الحازمي، والدكتور سحمي الهاجري، ومعهم الدكتور محمد الشنطي، والدكتور حسن حجاب الحازمي.
ويبدو لي أن هناك توافقاً على أن البدايات الحقيقية للقصة، قد نمت بعد توحيد المملكة في عام 1924م، حيث يشير د. حسن الحازمي إلى أن أولى المحاولات المشهورة في كتابة القصة، قد نشرها عبد الوهاب آشي في عام 1926م، بعنوان « على ملعب الحوادث»، وفيها يصور وطنه الحجاز على هيئة فتاة جميلة تتحدث إلى أبيها الشيخ المتهدّم، وتعني به التاريخ، وتشكو إليه بؤس الحاضر. وقد استخدم الكاتب أدواته الفنية القديمة، فجاءت على طريقة سجع المقامات وأسلوبها.
ولعلي أرى أن المعنى العميق لتلك الهموم التي حفلت بها تلك المقامة القصصية، والتي يفصلنا عنها قرابة القرن، ما زال يتردد في كتاباتنا الحديثة والحداثية، ليس في وطننا وحده وإنما في عالمنا العربي كافة، حيث ما زالت القضايا نفسها، والأسئلة تعيد موضعة ذواتها بدرجة أعلى حدة وفصاحة، وكأننا لم نبارح أزمنة أجدادنا وهمومهم في كل ميدان!
وربما شاركني الأستاذ محمد حسن عواد هذا الرأي، حيث أن قصته المعنونة بـ»الحجاز بعد 500 سنة»، والمنشورة في كتابه الشهير «خواطر مصرحة» (نشر عام 1926م)، لا تتفاءل بسرعة التطور المنشود، وإنما ترجئه إلى عام 2426م، حين يمكن لفتاة سعودية أن ترسل خطابا لأخيها كي تطمئنه على وضعها في موقعها كمديرة لمصنع الزجاج في جدة الجديدة!
وسأقول لتلك الفتاة القادمة: اطمئني يا حفيدتي، فما زلنا بخير، وأننا حتى الآن، لم نسمح للمرأة الملتفة بعباءتها والمغطاة بحجاب وجهها، ببيع الملابس النسائية لبنات جنسها، في مجمعاتنا التجارية!
أما قصة العواد الثانية والمنشورة في نفس الكتاب، بعنوان «الزواج الإجباري»، فقد علّق عليها د. منصور الحازمي، بأنها قصة تخلو من المعالجة الفنية، وأنها متأثرة بمناخات اجتماعية أخرى تختلف عنا.
ولماذا؟
لأنها تتحدث عن فتاة أرغمها أهلها على الزواج ممن لا تحب، فتهرب من زوجها، وتتنكّب السبيل السوي، حتى قادتها الغواية لأن تلعب البلياردو في جدة.
وددت من هذه الالماحات السريعة، الإشارة إلى خشيتي من أننا ما زلنا نعيش في نفس العالم الذي كتب فيه بعض مثقفينا القصة القصيرة في زمن قديم، ورغم تطوير الملابس التي تكسو عوراتنا، فما زلنا نحتفظ في الداخل بتلك التكوينات الأحفورية القديمة، معششّة في الأذهان، حتى وإن حاولنا تجاوزها.
وإذ أقف على كتاب الدكتور سحمي الهاجري عن «القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية»، فإنني أرى فيه واحداً من أوسع المراجع التي عنيت بمسيرة نشأة وتطور القصة القصيرة في المملكة، وقد شهد بذلك الأستاذ عبدالله ابن إدريس في مقدمته للكتاب بقوله» إن هذا الكتاب من أهم وأجود وأشمل الكتب الدارسة للقصة القصيرة في المملكة، والتي سيتكئ عليها الدارسون والباحثون الذين سيكتبون - مستقبلا - عن القصة القصيرة في المملكة».
وها آنذا أتكئ على هذا الجهد البحثي والمنهجي المتميز، مثلما اتكأ آخرون من قبلي، وعذري في ذلك أن اتكاءاتي قصيرة جداً!
البدايات:
يقف د. الهاجري على عدد من القصص القصيرة، التي يعتبرها نماذج معبرة عن البدايات، ومنها: قصة عزيز ضياء (الإبن العاق - نشرت في عام 1933م)، وقصة عبد القدوس الأنصاري (مرهم التناسي- 1934م)، وقصة حسين سرحان (حياة ميت - 1936م - صوت الحجاز)، وقصة محمد سعيد العمودي (رامز- 1937م - صوت الحجاز).
وقد اتسمت تلك النصوص وغيرها بالنبرة الخطابية العالية، والغايات الوعظية والمطامح الإصلاحية، نتيجة ما كان يستشعره كتابها من تخلف في كافة مجالات الحياة، ولكنهم ركنوا - في تجاربهم القصصية - إلى مضامين رسائل النيات الحسنة التي كان يمكنهم أن يعبروا عنها بكتابة مقالات وأبحاث اجتماعية، وليس بكتابة قصة تنتمي لفنية هذا الحقل المستجد في مجتمعاتهم آنذاك.
وقبل أن أتابع الإفادة من كتاب الدكتور سحمي الهاجري، أود الإشارة إلى ملاحظتين:
الأولى تتعرض إلى رأيه الجازم بعدم ارتباط القصة القصيرة في مراحل نشؤها الأولى بالمقالة. وهنا أخالفه الرأي في ذلك، حيث أحسب أن المناخ الأدبي في المملكة إبان تلك المراحل المبكرة، كان يحبو على أولى درجات التعلم والتقليد لاكتساب المهارة، مما حفز الكثيرين من كتّاب المقالة للتعبير عن أفكارهم من خلال الشكل القصصي. وكما نعرف فإن كثيرا من النقاد المهتمين بنظرية القصة القصيرة قد ذهبوا إلى التأكيد على أن بداياتها قد ارتكزت على ذلك الارتباط بين المقالة والقصة، حتى تطورت أدواتها واتضحت معالم هياكلها الفنية عبر التجربة والزمن.
ولذلك رأينا أن قصص تلك المراحل المبكرة في بلادنا تتسم بالتقعر اللغوي (نظراً لتخصص كتابها في اللغة والتراث العربي)، وعدم انتباه كتابها إلى تعميق دراما النص، والتعمق في الوجدان النفسي والإنساني لشخصيات القصة، وبقاء الوصف تقريريا خارجياً يستخدمه الكاتب من أجل إيصال فكرته إلى القارئ. وذلك ما أشار إليه الدكتور سحمي، ولكنني أرى أن تلك السمات هي خصائص مرتبطة بكتابة المقالة، ولذا يغدو التعالق - نظرياً - بينها وبين بدايات كتابة القصة القصيرة بارزاً وجلياً!
أما النقطة الثانية فإنها تعبر عن تساؤل مفتوح حول إغفال المؤلف لقصص «احمد السباعي» الذي صدرت له مجموعة قصصية بعنوان «خالتي كدرجان»، وقصة «فكرة»، وهي قصة طويلة وليست رواية في رأيي، وقد أحدثت دوياً هائلاً في محيطها الثقافي. وكذلك في عدم توقفه أمام قصص حمزة شحاته عن حماره، والتي اعتبرها الدكتور منصور الحازمي من أنضج ما تم نشره في تلك الفترة من محاولات في كتابة القصة القصيرة؟
ولكيلا يطول الحديث، سأقف على بعض التطورات اللاحقة التي أبرزها الدكتور سحمي الهاجري بعناية بحثية متميزة.
1ـ وفَدَ أحمد رضا حوحو (نشر أولى قصصه في عام 1937م)، ومحمد عالم الأفغاني (نشر أولى قصصه في عام 1939م)، إلى المملكة، ورافقا مرحلة البدايات، ولكنهما تمايزا عنها، بما اكتسباه في أوطانهما، من ثقافة أدبية وفنية أكثر التصاقاً بفن القصة القصيرة من مجايليهم السعوديين، حيث اقتربا من النموذج الفني للقصة، فتميز حوحو بجودة الحبكة القصصية واستخدام السخرية، فيما تميز الأفغاني بالاهتمام بالعواطف الإنسانية والانفعالات النفسية. وقد أثرا في نفوس الناشئة الأدبية أكثر من تأثير القصة المحلية، أو تلك التي تعرفوا عليها في الصحف العربية الواردة إلى بلادنا في تلك الأزمنة. (بتصرف عن د. سحمي الهاجري- ص 156).
2ـ دشّن محمد أمين يحي، ومحمد على مغربي، أولى المحاولات الجادة لكتابة القصة القصيرة، ومن أشهر قصص الأول «الوفاء» (نشرت عام 1937م) وهو مازال شابا في الرابعة عشرة، وقد تميزت بجرأة الطرح في موضوعها، وبالالتفات إلى تصوير ملامح حارات جدة القديمة، واتسمت كتابته بلغة سلسة وبسيطة، واستخدمت بعض التعبيرات الشعبية الحجازية، وتبدت فيها ملامح قدرة فنية لافتة، حيث بدأ القصة من نهايتها. أما محمد علي مغربي، فقد نشر عددا من القصص، ومنها «اعتراف» (ونشرت عام 1939م)، وأتفق مع الدكتور الهاجري - بعد قراءتي لها - أنها واحدة من القصص المتميزة، من حيث الحبكة والترابط الحواري الذي يعمل على توتر درامية النص، إلى أن يبلغ أعلى ذروته، والتي بقيت مفتوحة!!
3ـ المرحلة الثانية: عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية (1950-1960م)
يرى د. الهاجري أن كلا من: حمزة بوقري، وعبد الرحمن الشاعر، وإبراهيم الناصر، ومحمود عيسى المشهدي، كانوا يعبرون عن مرحلة التخصص في كتابة السرديات، حيث إنهم قد اتصلوا بالأدب العربي في مصر والشام، وقرءوا نتاج رواد القصة العرب، وترجمات إنتاج الكتاب العالميين في تلك الأقطار، وكذلك اطلعوا على الدراسات الأدبية التي اهتمت بنقد هذا الفن وتنظيره.
ويرى الدكتور الشنطي بأن نتاجات هؤلاء الرواد قد توفرت على المقومات الأساسية لكتابة القصة القصيرة الحديثة من حيث: الوحدة العضوية النامية في القصة والتخلص من مظاهر الترهل الإنشائي والحدثي، والتخفف من كثرة الشخصيات، والعمل على التكثيف والتركيز، والاتجاه إلى إقامة التوازن بين عالم الشخصية الخارجي وعالمها الداخلي، واختراقهم السطح الظاهري للحدث الواقعي، مع محاولة النفاذ إلى جوهره، ومحاولة الوصول إلى لحظة التنوير للإيحاء بوحدة الأثر والانطباع الذي هو الهدف الرئيس للقصة القصيرة. (فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية - دار المريخ 1987م).
وقد أشار الدكتور الهاجري إلى أن حمزة بوقري هو أول قاص يشعرنا ونحن نقرأ نصوصه بتشيكوف، وموباسان، ومحمود تيمور، وغيرهم.
وحيث امتلك بعض الكتاب المهارات الأساسية لكتابة القصة، فق د تطورت ذائقة المثقفين المهتمين بالحياة الأدبية، فدعا محمد سعيد العمودي إلى ضرورة الالتفات إلى حياة الناس في الواقع، وقال عباس فائق غزاوي: علم النفس هو أحد دعائم فن القصة المهمة والقوية، وأن القصة ليست الحادثة، وإنما هي طريقة سردها، وبالجو الذي تبدو فيه. كما بدأ كتاب القصة بالتعبير عن آرائهم في مفهوم القصة وأهم مقوماتها الحديثة، مثل عبد الله الجفري، وإبراهيم الناصر، كما تحدث خليل الفزيع عن أهم معيقات تطورها، وهو وضع المرأة في المجتمع. كما صدرت عدة مجموعات قصصية في تلك المرحلة لكل من: حسن القرشي، وإبراهيم فلالي، وعبد الله جفري، وعبد الرحمن الشاعر، وإبراهيم الناصر، وسعد البواردي، وعبد السلام هاشم حافظ. (بتصرف عن الدكتور الهاجري).
وسوف نرى في قصص تلك المرحلة الطويلة أن القضايا والأفكار التي انشغل بها كتاب القصة، ما زالت تشغلنا حتى اليوم، حيث تراوحت ما بين تعليم المرأة، والعلاقة بالمرأة، وما بين الرؤية النقدية للعادات والتقاليد المهيمنة على ذهنية الناس، والاهتمام بتأكيد القيم الإنسانية العامة، وتصوير معاناة الطبقات الفقيرة. وقد تفاعل بعض الكتاب مع القضايا القومية لا سيما وأن العالم العربي كان وما يزال يعيش صراعاته مع الاستعمار وإن بأشكال جديدة، ويعاني من تحديات الوجود الصهيوني، وكارثة اغتصابه للأرض الفلسطينية وتشريد شعبها، حتى اليوم.
ويمكننا القول بأن إنجاز الرواد المؤسسين لفن القصة في المملكة لم يترك أثراً واضحاً على كتاب مرحلة السبعينات والثمانينات في بلادنا، من حيث كونه الأنموذج الأمثل للاحتذاء، وإنما كان أقرب ما يكون إلى الجهد الثقافي المهم لتبيئة القصة القصيرة ومفاهيمها في نسيجنا الثقافي والاجتماعي، أما الكتاب الجدد فقد أصبحوا أكثر تواصلاً وتأثراً بنماذج الإبداع العربي والعالمي المترجم، الذي حفلت به عواصم الثقافة العربية، من خلال السفر أو البريد، أو من خلال تهريب الكتب إلى المملكة.
و ضمن الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة في تلك المرحلة في بلادنا وفي الوطن العربي، سنرى أن قصص هذا الجيل قد اهتمت بشكل كبير بالذات الإنسانية وحقوقها وحريتها، واكتست بكثافة لافتة بملامح الغضب والتمرد على الأطر التقليدية، والعمل على كسر النمطية، والنزوع نحو الحرية، وبتكريس الشعور بالغربة والاغتراب في مجتمعاتهم، ولذلك جاءت قصصهم المحملة بكل تلك المشاعر للتعبير الفني عن حضورها، بالاختلاف والتمايز عن السائد والموروث، رؤية وتشكيلا.
وسنرى الكثير من تلك التفاصيل في وقوفنا على تجربة جبير المليحان، التي تلتقي وتفترق مع/ وعن الكثيرين من جيل السبعينات والثمانينات في بلادنا.
...يتبع
الدمام