نعم، سأتحدث عن إصدارات ثلاثة كلها أنثوية، ولا دخل لي في ذلك ولم أتعمده، إنما هي ذائقة الناشر الصديق عبد الرحيم الأحمدي الذي قدمها لي مع بعضها حين قلتُ له: اختر لي أجمل ثلاثة كتب إبداعية صدرت عن مؤسستك (دار المفردات) في الفترة الأخيرة..
وعبد الرحيم الأحمدي، لمن لا يعرفه جيداً، يمثل نوعاً نادراً من الأدباء (المحايدين) المتصالحين مع الكل، فلم أعرف له عدواً أو خصماً (إلاّ أعداء وخصوم الأمة جمعاء!) وعلى كثرة ما أجد عنده من أصدقاء لم أشهده يوماً ينحاز لأحد ضد آخر مهما تكن من خصومات بين طرفين (!) وبرغم أنني لا أخفي تطرُّفي وانحيازي الكليّ تجاه أشياء وضدّ أشياء أخرى، إلاّ أنني أرتاح كثيراً لمن هم على عكس ما أنا عليه، فأستطيع أن أعرف من خلالهم التوجه العام للمحيط الذي يتمركزون فيه دون أن يراودني شكٌّ في النوايا والأهداف (!) والأهم من ذلك كله أن هذا الناشر الأديب بقدر ما هو كبيرٌ يحرص على دعم الشباب، وقد أصدر في السنوات الأخيرة عشرات الكتب التي يمثل كل منها باكورة إنتاج أديبٍ جديد..
على كل حال، فبين فترة وأخرى أحبّ أن أرصد وأتأمل بعض ما تنتجه الأقلام الشابة في الأدب، والإبداع تحديداً، بغضّ النظر عن كونه الشكليّ شعراً كان أو نثراً، غير أن الملاحظ بوضوح أن النثر يطغى على الشعر كمًّا، وهذا في صالح الشعر الحقيقيّ طبعاً، ولكنه لا يعني أن النثر قد صار له الحضور الأبرز، فديوانٌ واحدٌ من الشعر الحقيقيّ يكفي بأن يملأ الساحة الثقافية كلها انشغالاً به متى ما ظهر. أما الإبداعات الأدبية النثرية، بخاصة (الخواطر) التي تميزت بها الكتابة الأنثوية في الفترة الأخيرة، فهي تمرُّ بهدوءٍ مقروء، دونما احتفاء أو نقد إلا نادراً، ذلك لأنها - بتصوّري - تأتي على شكل رسائل موجهة من فتاة إلى فتى، هي تتصوره كما تريد وهو يقرأ أو لا يقرأ فهذا لا يهم غير الشباب، أما النقاد الكبار فهم لا يلتفتون إلى ذلك طالما أن اللغة لا تستفزهم كما لغة الشعر، والمضمون لا يعنيهم في شيء!
قد تكون الحالة على هذا النحو وقد لا تكون، ولكني في كل الأحوال أحاول بين فترة وأخرى الوقوف على بعض هذا النتاج الأدبي الإبداعي لأقول فقط إنه يستحق القراءة، تاركاً للنقاد - إن وُجدوا!- تقييمه أو دراسته، فهم أقدر مني على ذلك، وأنا أقدر منهم على قول انطباعي دون اعتبار لأي حساسيات أو حسابات..
الإصدارات الثلاثة، التي بين يدي الآن، هي عبارة عن ثلاث مجموعات من الخواطر الأدبية جاءت سطورها على شكل أقاصيص تارة وتارة على شكل سطور شعرية، وفي الحالتين تحمل جماليات هادئة سأقتطف منها مقطعاً واحداً يمثل كل إصدار..
* أبدأ بأحدث إصدار من الإصدارات الثلاثة، وهو بعنوان (قلب.. أنثى.. عقل) صادرٌ هذا العام 2013 للمبدعة نورا مسيّر السلمان، وإن كان في العنوان غرابة فقد بررتها المؤلفة على الغلاف الخلفي بقولها: (كنتُ أعشقُ صخبَ البدايات وأخشى عنف نهاياتها.. قلب.. أنثى.. عقل.. هكذا أرتبني، وما عاد يعنيني ذاك الصخب، ولا شيء في النهاية يؤرقني كثيراً منذ أن ترتبت!) وتقول ص 53 من كتابها:
(أحادثكَ أنت..
نعم أنت..
وحدكَ أنت..
ما يفترض أن يكون عليه بقية رجال الكون..)!
ناعمٌ هذا الخطاب وراقيةٌ معانيه، ومكتوبٌ بلغةٍ غاية في السهولة والسلاسة والانسياب، كأنما هي نابعة من أعماق كل الفتيات ومتوجهة إلى كل الفتيان!
* الإصدار الثاني عنوانه (حروف عارية) وهو صادر عام 2009 للمبدعة سارة سلمان العبد المحسن، تقول ص 17 بسطور متقطعة:
(ماذا تقول في نفسكَ الآن..؟
هل سأنساكَ وتنساني أيها الرجلُ الخرافيُّ؟
كيف أنساكَ وأنا أشمُّ في قميص حروف نزار
رائحتك..؟
كيف أنساكَ
وأنا أرى
في المرآة
وجهك..!
وألتفتُ خلفي، فلا أجدك)!
تثبتُ قصائدُ نزار قباني أنها لا تزال تحضر في كتابات الفتيات، حتى من الأجيال التي وُلدت بعد موت نزار ربما، أو حتماً بعد تحوله من الكتابة البسيطة الحالمة إلى الشعر الصادم المراوغ الذي يضمر عكس ما يقول ويبوح بالتشفي أكثر من المناجاة، ولكنّ الكاتبة كغيرها من الكاتبات الشابات لا تزال تأخذ من قديم نزار حينما كان في مطلع حياته الشعرية لتعيد تشكيله بطريقتها الأدبية، وهذا رائع لتكوين أديبة تنضج على مهل..
* أما الإصدار الثالث (وهيأتها للموت) للمبدعة نويّر بنت مطلق العتيبي، الصادر عام 2009 فهو مغموسٌ في الحزن ومخضَّبٌ بالموت منذ عنوانه وحتى غلافه الخلفي:
(ألبستُها الإكليلَ..
قبّلتُها..
نصفُ ابتسامةٍ بدتْ منها، وأهدتني النصف.!
ثم همَستُ لها بحب:
الحياةُ كفنٌ ملوَّن..!)
ونويّر لديها أدوات الدهشة في كتابتها، وقد استوقفتني فعلاً بنص عنوانه (طفلة عجوز) تقول فيه:
(طفلة أنا
لم أستطع أن أكبر
أن أخرج من قيود البراءة
وأسحب يدي من الألعاب
طفلة بملامح الكبار
لم أستطع أن أكبر.. أن أقلّد
وأمارس أعمالاً أكبر
أن أبدل العرائس بالأطفال..
وأواني البلاستيك بالتيفال!
لا أطفال معي..
ومن حولي كبار بهيئة أطفال
- أطفال اليوم! -
كبارٌ ينتحلون الطفولةَ
ويهتكون أستارَ البراءةِ
تحرروا مبكراً،
وبقيتُ أنا..
أداري طهرَ الطفولة.)!
اجتزأتُ السطور من النص، لأني رأيتها مكتملة هكذا، كما رأيتُ تميزاً في التجربة الحزينة حين تعبث بالحزن نفسه وتشكله على النحو الذي تريد أن تراه فيه، فتجعله هو في إطارها وتجلس مقابلة له تتفرج عليه!
** التجارب الثلاث تستحق القراءة، وأجزم أنها بواكير لأعمال أدبية إبداعية ستدهشنا حين تنضج وتصبح لكل منها خصوصية وشخصية وبصمة تستحق الإشادة أكثر..
ffnff69@hotmail.com
الرياض