في ديوان دلال جازي (تشريح الأرنب الأبيض) يمكنك أن تعثر في مواضع كثيرة على فكرة امتزاج الكائنات وتداخلها. ودلال تعرض هذا التمازج بطريقة شعرية تثير المخيلة فعلاً، وتقتنص فيها لحظات من تفاصيل الحياة اليومية المهمشة أو المنسية تحت ركام الاعتياد، تلك التفاصيل التي لا تلتقطها إلا مخيلة يقظة وشعور مرهف. فمثلاً في قصيدة (عن الغرفة) تبدأ بالحديث عن النافذة وتسعى الشاعرة لأنسنة وشخصنة النافذة. فالنافذة لم تعد نافذة وإنما هي عين، ولأن النافذة / العين محدودة بالزاويا فالنافذة مصابة بقصر النظر!! تقول:
«أطل على العالم من عين حجرية / وأرى بقدر ما يتيحه لي انتباهها المحدد بزوايا أربع حادة / نافذتي المصابة بقصر النظر / ليست أمينة تمامًا في نقل المشهد / لكن لأنها تغيره فعلي أن اثق بانطباعاتها عنه / ويكفي لأنها لا تغفل أو تنام / إلا إذا أسدلت الستار عليها بتمهل، وقلت هذا يكفي».
تغمض دلال عينها، وتسدل الستار على نافذتها الحجرية المصابة بقصر النظر، لأنها غير واثقة بأنها أمينة في نقل المشهد. هذا التشكك ينتقل إلى القارئ، ويشعره بنسبية الأشياء، ويحيله إلى مشهد الخديعة في قصيدة (نزهة قصيرة مع ت.س إليوت) وغيرها من القصائد، فثمة خديعة أو مكر منتشر مستتر خفي تحت غطاء الأشياء؛ لذا فهي تكرر هذا التشكيك وتسعى لنزع اليقين عن المسلمات، وتبدأ من المحسوسات لتنتقل إلى المجردات، عابرة تلك المنطقة الرمادية والممتزجة والمتداخلة التي تسمح بتناغم الكائنات مع بعضها ومرورها من حالة إلى حالة أخرى عبر مفصلي الزمان والمكان. الملل من الثبات (اليقين) ينتقل إلى الجمادات أيضًا، تقول في قصيدة (عن الغرفة) بعد أن أغمضت الستارة:
«الأبواب تمل الوقوف، وتتحرك في الأرجاء عبر مفاتيحها / والنوافذ أيضًا ما إن أطفئ الضوء حتى يصير الستار / سلحفاة ضخمة لها صدفة من زجاج / تختزن في داخلها سطح البناية المقابلة والشجرة الجرداء / وسيارة الجار الميت منذ سبعة أعوام / مخزونها هو ما يبطئها، ويحدد طريقتها في المشي / لو كان هناك عابرون فلربما صارت نافذتي قطة أو أرنبًا بريًا /يتقافز في الظلام / الطاقة التي تصلها من الخارج لا تؤهلها لأن تكون إلا هذا / سلحفاة طيبة أربّت عليها في الصباح وأقول أرى ما ترين كي تعود من جديد نافذة».
لا تحتاج دلال إلى سحرٍ ما أو إلى غرائبية (كافكا) الحاضر أيضًا في الديوان لتحول النافذة إلى سلحفاة، المخيلة الشعرية تتكفل بذلك. والرؤية الشعرية القائمة على النسبية وقراءة ما تحت الظواهر والإيمان بالتداخل والتناغم كلاهما قادران على إثارة خيال المتلقي، ليفهم كيف تبدو النافذة بستارتها (برموشها) مجرد سلحفاة. أليست هي العين الحجرية بصدفتها الزجاجية (لاحظ مخيلة الشعر كيف تربط بين زجاج العين وزجاج النافذة، وهي تختزن في داخلها المشاهد المقابلة لها ) هذا المخزون هو الذي يبطئ حركتها، ويجعلها مجرد سلحفاة. هنا تأكيد واضح على مبدأ التفاعل مع الكون وتأكيد على أن الكائن الحي متلون بالموجودات والكائنات من حوله. وتزيد تأكيدًا بالقول بأن تغيرها مرهون بتغير الأشياء ومفتوحًا على الاحتمالات؛ فقد كان من الممكن أن تكون النافذة قطة أو أرنبًا وهو معنى يؤكد على الطاقة التي تصلنا من الكون أو التي نضخها نحن فيه بتماسنا وتفاعلنا. ولكن الطاقة في الكون مرهونة كذلك بتحكم البشر وطريقة تفاعلهم وزوايا النظر، تلك السيطرة التي ستعيد السلحفاة إلى مجرد نافذة مقفلة أو سلحفاة مشوية !
الرياض
rafef_fa@maktoob.com