3-1 وجد العالم في القطاع الخاص حلاً للمشكلات التي عانت منها التنمية في ظلّ القطاع العام، وذلك لما يتميز به هذا القطاع من قدرات وإمكانات على المستويين الإداري والفني، تتفوّق بمراحل كبيرة على القدرات والكفايات المحدودة للقطاع العامّ. هذا، بالإضافة إلى تمّيزه بالتطوّر الدائم والفكر الإداري المتحرّر، والرغبة الدائمة في توسيع نشاطه وتنمية مكتسباته؛ التي تدفعها عوامل كثيرة في مفهوم الملكية الخاصة (انظر: الخصخصة وأثرها على التنمية في العالم العربي).
لا أريد هنا الاسترسالَ في الحديث عن مفهوم الخصخصة وأنماطها مما له علاقة بمباحث علم الاقتصاد، وإنما أريد الإشارة إلى قدرة القطاع الخاص على دفع الملفات المتعثّرة أياً كان نوعها، سواء في ذلك ملفُّ المؤسسات الخدمية (كالتعليم والصحة على سبيل المثال)، أو الملفات الفكرية والثقافية..، ومن هنا – تحديداً - تجيء أهمّية الالتفات إلى القطاع الخاصّ؛ بقصد تحريك أيّ ملف يتعثر في القطاع العامّ، وتوفير الرؤية العصرية للتعامل معه، وتأمين ما يحتاجه من دعم مادي، وكفاية إدارية، وهذا ما انتبه إليه مؤخّراً بعضُ المثقفين؛ فطالبوا بخصخصة المراكز الثقافية والأندية الأدبية لتتغلب على عجزها المادي وتخلفها الإداري، كما طالبوا بخصخصة الثقافة نفسِها ليحظى المثقف باستقلالية تمكّنه من التموقف الحرّ / المطلق من السلطة، وتمنحه الاعتمادات المادية والمعنوية الكافية، بل ربما سعت بعض الجهات الثقافية في العالم العربي إلى تجربة فكرة الخصخصة في بعض أنشطتها الثقافية الكبرى بشكل كامل أو بشكل جزئي، ويمكن أنْ أضربَ هنا مثالاً بمعرض البحرين الدولي للكتاب (في نسختيه: الثامنة 1998م والتاسعة 2000م) الذي أشرفت على تنظيمه مؤسسة تجارية ذات اهتمامات ثقافية (هي مؤسسة الأيام)، وكذلك معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي سجّل في إحدى نسخه حضوراً ملموساً للقطاع الخاص.
3-2 لا أنكر هنا وجود مشكلات قد يفضي إليها انتقال النشاط الثقافي من (العام) إلى (الخاص)، من مثل تخلي الدولة عن مهمّاتها الاجتماعية، وتسلّط التجّار على الثقافة (كما يسجّل الشاعر البحريني قاسم حدّاد)، لكنني أرى أنّ للخصخصة رؤى مختلفةً وأنماطاً، يمكن أن نبحث فيها عما يضمن لملفّ اللغة العربية التحرك والفاعلية دون أن يضيعَ منا في معمعة رأس المال وتحصيل الأرباح.
4- تعرِّف هذه المقالة «خصخصة ملفّ اللغة العربية» بأنها استثمارُ القطاع الخاص مادياً وإدارياً لصالح اللغة العربية: دراساتِها، وتعلّمها، وتعليمها، وخدمة قضاياها المتجدّدة، والإشراف على بنيتها التحتية. والخصخصة بهذا المفهوم لا تعدو كونها وضع الترتيبات اللازمة التي تكفل زيادة مشاركة القطاع الخاص في إدارة الأنشطة الكبرى التي تقدّمها الجهات المعنية باللغة العربية، إما على أساس خدمة المجتمع (كونها جزءاً مُفَعّلاً من مسؤوليات القطاع الخاص)، وإما على أساس ربحي كما في إدارة المعارض، أو تنظيم المسابقات المفتوحة، أو تنفيذ البرامج التعليمية والتدريبية..
وأقترح لبناء المرحلة الأولى (على الأقلّ) من مراحل خصخصة ملف اللغة العربية: أن تتولى إحدى مؤسسات خدمة اللغة العربية عقدَ ملتقى لمناقشة هذه الفكرة من الزوايا الآتية:
• إمكانية تنفيذ الفكرة من عدمه.
• وضع رؤية محددة للمراحل التأسيسية من الخصخصة، تضمن أن يبقى دورُ الدولة حاضراً مع الانفتاح على القطاع الخاص مادياً وإدارياً؛ لتحقيق أهداف محدّدة.
• اقتراح المداخل الممكنة للخصخصة، ويمكن أن يناقش الملتقى المداخل الآتية:
- استثمار برامج خدمة المجتمع التي ينهض بها القطاع الخاص.
- استثمار برامج الرعاية التي يقدِّمها القطاع الخاص للبرامج والأنشطة المدفوعة.
- مناقشة إمكانية استهداف القطاع الخاص أو استثماره في برامج تعليم اللغة العربية لأغراض خاصة.
- استثمار خبرة القطاع الخاص في الجانبين البنائي والتسويقي؛ لترويج عدد من البرامج، ومنها – على سبيل المثال – إعداد برنامج تعليمي (تجاري) يفيد من البرامج المماثلة في اللغات الأخرى (وأهمها الإنجليزية).
- الحصول على الترتيبات اللازمة (الأنظمة أو التنظيمات) التي تجعل اللغة العربية متطلباً دراسياً في البرامج المهنية، ومن أهمّها – من وجهة نظري – برامج: (السياحة) و(الفندقة) و(التقارير الإعلامية).
- الإعداد أو الإشراف أو المشاركة الجزئية في المسابقات التلفازية ذات الأغراض الخاصة، من مثل: مسابقتي: مذيع على الهواء، ومذيع المستقبل.
- تصميم بعض البرامج التعليمية الموجزة الخاصة باللغة العربية، وطرحها في مواقع التواصل الاجتماعي من خلال المؤسسات المتخصّصة في هذا المجال.
- البحث في إمكانية إنشاء شبكة من هذه المداخل عند طرح الأنشطة الخاصة باللغة العربية (بناء النشاط وفق رؤية القطاع الخاص، تحصيل الرعاية المادية والإعلا مية من بعض قنوات القطاع الخاص، ضمان تحقيق عائد مادي من النشاط يقدم للقطاع الخاص مقابل خدمات أخرى..)، وأجزم أنّ هذه الشبكة الدائرية هي التي ستجذب القطاع الخاص إلى الاستثمار في هذا المجال المهمّ، تماماً كما حصل في المجال الرياضي – مع الفارق الكبير بين المجالين.
تركيب:
تنتهي هذه المقالة بحلقاتها الثلاث إلى الآتي:
• صعوبة تحقيق عوائد مقنعة من الجهات المعنية باللغة العربية في العالمين العربي والإسلامي في ظلّ وضعها الآني، وذلك بسبب العقلية التقليدية التي تسيطر عليها، والبيروقراطية الإدارية التي تكبلها بقيود ما لها من آخر.
• وجود إمكانية للخروج من مشكلات القطاع العام إلى رحابة القطاع الخاص (الخصخصة)، وذلك بالإفادة من الرؤى والمقترحات التي قدمها المثقفون في هذا السياق، ومن إعادة إنتاج التجارب العربية المحدودة، أو دراستها على الأقلّ.
• تطرح المقالة مفهوماً ممكناً ومتوازناً لخصخصة ملف اللغة العربية، لا يُغْفِلُ أهمية الوظيفة الاجتماعية للدولة، ولا الخطر الكبير الذي سيؤدي إليه نقل الملفات الثقافية بكاملها إلى القطاع الخاص.
• تضع المقالة كيفية أولى لهذه الخصخصة تتمثل في تبني إحدى الجهات المعنية بخدمة اللغة العربية لفكرة الخصخصة ومناقشتها في مؤتمر مفتوح تشارك فيه الأطراف ذات العلاقة (المتخصّص في اللغة العربية، والخبير في مجال إدارة النشاط اللغوي والثقافي، والمتخصص في مجالات الخصخصة).
@ alrafai
الرياض