Culture Magazine Thursday  25/04/2013 G Issue 404
أوراق
الخميس 15 ,جمادى الآخر 1434   العدد  404
 
الفقيه بين التجريد والتجسيد
عبدالله السعوي

 

التشخيص الدقيق للواقع المراد التعاطي معه فقهيا إجراء يحظى بقيمة موضوعية عالية بوصفه أحد الركائز الجوهرية التي ترشّد مسارالممارسة الفقهية وتحمي الفقيه من متتاليات الالتياث بجريرة تجاوز مقتضيات المنهجية الحاكمة – كما يفترض – لعملية التعاطي مع النص سواء من حيث الاستنباط والتأويل والتوليد الدلالي أو من حيث التجسيد والتنزيل المنسجم مع محددات الواقع بشقيه: طبيعة المكون الجغرافي من جهة وحيثيات المنحى الزمني من جهة أخرى.

إن التعاطي مع النص الشرعي – وهذا من نافلة القول التأكيد عليه – ليس مقصورا على فهم دلالاته وإدراك وجوه معانيه فحسب بل يتجاوز ذلك إلى ضرورة وعي مظانّ تنزيله وتعيين نطاق مناطاته ليتسنى نقله وبمنهجية رفيعة المستوى من حيز التنظير والتصورات الذهنية إلى صعيد الحياة المتنوع الأبعاد وما يُتعارف عليه أصوليا بـ تحقيق المناط - سواء تحقيق المناط العام في الأنواع أو الأشخاص والذي يجري فيه إسقاط الحكم على آحاد الصور بشكل عام دون ملاحظة الملابسات الخاصة أوتحقيق المناط الخاص الذي يضع في اعتباره نوعية العوارض الخاصة التي تكتنف متعينا مّا- الذي يقف كفاعل مركزي خلف كثيرمن التغاير في أشكال الفتوى كمخاض طبيعي لذلك التفاوت بين الفقهاء في تحديد مناط الحكم وبالتالي التباين في إسقاط التوصيف الشرعي الملائم على نحو جعلنا أمام آراء فقهية متعددة في المسألة الواحدة وهو الأمر الذي يجعل الاجتهاد في إسقاط الحكم باقٍٍ ببقاء الإنسان ولا ينقطع إلا بانقطاع التكليف وذلك بخلاف تنقيح المناط وتخريجه كما يقرر(الشاطبي) في موافقاته ج5ص11-32

إسقاط الحكم الفقهي وتحديد محالّه وضبط الجزئيات الملائمة لتنزيله وإدراك مدى استجماعها لمناط الحكم أمر لا يقل شأنا عن آلية استنباطه بل حتى التشابه الصوري بين الوقائع ليس مسوغا بذاته لتوحيدها بحكم إذ قد يختص بعضها بمحددات تفرض لها مناطا خاصا يخرجها عن مماثلة نظيراتها التي تتقاسم معها الانتماء إلى المناط العام, ولا غرو فتصورالشيء باعث على مصداقية الحكم عليه وفي المقابل فالتجسيد للحكم هو فرع عن التشخيص الدقيق لحيثيات الواقعة, والإحاطة بما يكتنفها من ظروف وملابسات وليس بمقدور الفقيه ضبط آلية الفتوى ومدّها بما يلزم من الموضوعية من غير الوعي الدقيق لملامح الواقع والاستيعاب التصوري العميق لنوعية الحيثيات الحاكمة لتلك الجزئية محل الحكم والتي على ضوئها تجري اطرادية الحكم الفقهي وجريانه وفق الاقتضاء الأصلي المتسم بالكلية والتجريد, أو تَخَلفه لاقتران أمرخارجي إما لتموضع مانع أو لافتقاد شرطِ أو لعلة اقتضت إملاءاتها العدول نحو الاقتضاء التبعي واستثناء تلك الواقعة من الحكم بدليل يخصها أيا كانت مرتبة هذا الدليل وموقعه في»مدارك الأحكام» سواء المتفق عليها أو المختلَف فيها, والقواعد الشرعية الدالة على وجوب تولية الوجه شطر الواقع واعتبار مكوناته والوقوف على خصائصه قواعد عديدة كما في قاعدة العادة محكمة وقاعدة تغيرالأحكام بتغيرالزمان وقاعدة اعتبارالمآل ونحو ذلك من القواعد المماثلة وهذا هو ما جعل الإمام (القرافي) يقرر أنه: «إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجْرِه عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك «ج1ص176

إن تخلف الحكم في سياق مّاعن الصورة محل النظر ليس ناجما عن تغير طال أصل الخطاب وإنما لموجب خاص اقتضت شروطه هذاالعدول عن الحكم العام, وإخراج المفردة المراد معالجتها وإفرادها بحكم استثنائي خاص على اعتبار أنها لم تستجمع المعنى الكلي وبالتالي فهي ليست مفردة مرادة بخطاب الشارع ابتداء وذلك لما يحف بها من تفاصيل منعت من إجراء الحكم وإسقاطه على واقعة لم يتحقق فيها مناطه ومن هنا تشكل ما يسمى فقه الاستضعاف في مقابل فقه التمكين حيث لكل حالة أدبياتها الفقهية المتداولة.

وتمعن في هذاالكلام القيم من الامام ابن القيم حيث يقرر أن: «من أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضرّ ماعلى أديان الناس وأبدانهم والله المستعان»أعلام الموقعين ج3ص66.

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة