تعد معارض الكتب الدولية من أهم الأحداث الثقافية في الدول المتقدمة. وعندما يصلك خبر انعقاد معرض للكتاب في بلدٍ ما يتبادر إلى ذهنك مباشرة منظر الكتب وهي تملأ الرفوف، وإعلانات دور النشر عن كتبها المطبوعة حديثاً كوسيلة من وسائل تسويق الكتاب. وأنت تعد نفسك وتشد الرحال لزيارة ذلك المعرض لتعود محملاً بوزن لا بأس به من الكتب – هذا على اعتبار أنك ستجد ضالتك - العلمية والبحثية القديمة والحديثة. وفي كل عام ينعقد فيه ذلك المعرض تسمع الشكوى نفسه تتكرر من صغر المساحة المخصصة لكل دار نشر والتي لا تكفي لعرض كل الكتب المحمولة لهذا المعرض، كما تسمع طبعاً عن عناوين ولا تجدها لأنها قد صودرت ومنع بيعها، إما رسمياً من الجهة المنظمة، أو احتساباً ممن نذروا نفسهم كل عام لمحاربة الكتاب وإثارة الشغب في أروقة المعرض، وقد يؤدي ذلك أحياناً إلى إجهاض جهود المنظمين بعد إلغاء فعاليات ثقافية أو اعتراض على منصات التوقيع هنا وهناك، ثم ينتهي بك الأمر بالخروج من المعرض مثقلاً بالشكاوى والاتهامات التي عكرت صفو جولتك الثقافية وسياحتك الفكرية.
في الأسبوع الماضي وتحديدًا من 15-17 إبريل 2013 كانت مدينة لندن على موعد مع عرسها السنوي الذي تحتفي فيه بالكتاب، وتستضيف سفراء الثقافة والفكر من جميع أنحاء العالم، والذين لم تمنعهم صغر المساحة المخصصة لهم من التفاعل مع الزائرين وعرض كثير من إنتاجهم الفكري والثقافي. كانت الرحلة إلى هذا المعرض تجربة تستحق الكتابة عنها، فتجربتي مع المعارض العربية طبعت في ذاكرتي مظاهر الاحتفاء التقليدية بصدور الكتب الورقية في كل عام، ولازلت أفضل الكتاب الورقي ولكني في المقابل أيضاً أشجع التقنية الحديثة في النشر الإلكتروني. تجربتي مع معرض لندن للكتاب اختلفت هذه المرة عن زياراتي للمعارض العربية، فقد أتيت باحثة أنشد بغيتي من المراجع العلمية والبحثية لمساندتي في مسيرتي البحثية الحاليّة، ولكني خرجت من المعرض بأكثر من مجرد مرجع ورقيّ وجدته على رفوف المكتبة فأحمله لأكتفي بقراءته في زاوية مكتبي، بل خرجت بروح مليئة بالنشاط وذهن تشغله كثير من الأفكار التي سمعتها في محاضرة هنا أو مناقشة هناك. عدت أحدث نفسي عن إجابات أسئلة كثيرة أشعلتها مواقف مختلفة في أروقة المعرض الذي حملت رفوفه كتباً قليلة، وقيماً علمية وثقافية عظيمة. عندها فقط أدركت أنّنا في معارضنا العربية نعرض كتبًا للبيع فقط! ولا نعرض فكرًا وثقافة حقيقية.
الاحتفاء بالكتاب هنا مختلف، فكل بلد مشارك خصصت له مساحة جيدة تشارك فيها دور النشر والجامعات والمراكز البحثية، لكن هذه المساحة استغلت لعرض الفكر وفتح باب الحوار أكثر من عرض الكتب فقط، أي أنك ستدخل هذا الجناح لتجد طاولات تحلّق حولها مجموعات مختلفة من طلبة العلم والكتّاب والمؤلفين والناشرين يتبادلون الآراء مع الزائرين، ويستمعون إلى وجهات نظرهم ويناقشون معهم ما ورد في كتاب جديد، وينقضون ما جاء في كتاب قديم، ويعرضون خدماتهم العلمية على الباحثين وطلبة العلم في جوّ ثقافي صحيّ يتقبل الآراء، ويؤمن باختلاف الرأي والرأي الآخر. ولهذا جذبني الفضول العلمي لسؤال إحدى مسؤولات دار نشر بريطانية شهيرة عن بعض الكتب العلمية التي أبحث عنها ورأيت أحدها على رفوف جناحها، فأخبرتني أنّ الجلوس هنا لتصفح الكتاب المعروض ومناقشة محتواه مع الناشر أو المؤلف إن صادف وجوده في الدار، فإن رغبت باقتنائه فشراء الكتاب يتم إلكترونياً ويستلم بالبريد مجاناً. هنا فهمت معنى الاحتفاء بالكتاب لديهم، فالمعرض يعقد ليجمع محبي القراءة من جميع أنحاء العالم لتبادل الخبرات والمناقشة في فعاليات ثقافية وحوارية مختلفة، حيث تعقد المحاضرات في ساحات العرض بين أروقة المعرض لتمنح الفرصة للجمهور والزائرين لحضورها والمشاركة في الحوار حولها. هذه التجربة مع معرض لندن كانت مختلفة حقًا، تجمعك بالكتاب، وبالحوار، وبالثقافة، والأدب تحت سقف واحد. لم يعد التسويق للنشر الورقي فقط بل أصبحت تنافسه دور النشر الإلكتروني التي تتيح للجيل الجديد القراءة من خلال برامج عديدة في الأجهزة المحمولة مثل (iBooks) أو جهاز (Kindle) الذي يتيح للقارئ تحميل ما يريد من الكتب العلمية والروايات الأدبية مع سهولة التصفح أينما وجد دون عناء أو ملل. وهكذا فالسياحة الثقافية في معرض لندن للكتاب تبدأ بتنظيم راق للدخول من خلال تسجيلك إلكترونياً عبر موقع المعرض الإلكتروني لتحصل على (barcode) الخاص بك لتتمكن من المرور من بوابات المعرض بسهولة، كما أنها وسيلة دقيقة توفر معلومات إحصائية صحيحة عن عدد الزوار، ووسيلة أمنية لحماية زوار المعرض والمشاركين فيه، وتنتهي الرحلة بخروج الزائر سعيداً بلقاء كتّاب ومثقفين خصصت لهم زاوية تحمل صورهم للإعلان عن وقت وجودهم للالتقاء بقرائهم والحديث عن تجربتهم الأدبية والكتابية.
أكتب عن معرض لندن للكتاب هنا وفي ذاكرتي معرض الرياض الدولي للكتاب الذي أصبح من أهم معارض الكتاب العربية تنظيمًا وحضورًا. وأسجل تقديري لجهود القائمين على نجاحه في دورته الأخيرة وفي مقدمتهم مدير المعرض الدكتور صالح معيض الغامدي وفريق العمل معه، وذلك بدعم مشكور من وزارة الثقافة والإعلام، ولكن طموحنا يبلغ عنان السماء في أن يضاهي المعرض في دوراته القادمة معارض الكتاب العالمية تنظيماً وأنشطة تحتفي بالفكر، وترتقي بالثقافة والأدب عبر مزيد من الفعاليات وحلقات الحوار المفتوح أمام الجمهور وليس للنخبة فقط، فالتأثير والتغيير يبدأ من نشر الثقافة الجماهيرية وليس النخبوية. نحلم بمعرض للكتاب لا يصادر فيه فكر، ولا تلغى فيه فعالية، ويتقبل كل المرجعيات الثقافية خاصة أنّ ولاة الأمر في دولتنا الرشيدة لم يدخروا جهداً لدعم العلم والثقافة ورفع الوصاية عن الفكر بعد أن أطلقوا الدعوة إلى الحوار العالمي وليس الوطني فقط. والقائمون على معرض الرياض الدولي للكتاب يحملون من الخبرة الثقافية والمؤهلات الإدارية ما هيّأ للمعرض تطويراً وارتقاء يخدم الفكر والثقافة العربية، وفي كل دورة يلمس الزائر تطوراً للأفضل. ولهذا، فالاستفادة من خبرات وتجارب الدول المتقدمة سيعد إضافة جيدة وانفتاحًا ثقافيّاً وفكريّاً ستجني الأجيال القادمة ثماره.
لندن