تتمحور قصص «وماذا بعد» للكاتب محمد الشريف حول هم الإنسان ومعاناته، وترقب ما قد يحصل للبناء الاجتماعي، ومد النظر أبعد وأبعد للاسترسال في الرؤية عن مدى بقاء الحال على ما هي عليه، بل والأخذ بمبدأ التمحيص والنقد وزرع الأسئلة في كل حكاية إنسانية ليس من اجل الجدل فحسب، إنما للتعرف على الواقع المعاش ومدى مواءمته للحياة في هذا الزمن الذي يتغير ويتبدل، وبل ويسير نحو تحول أكبر.
فالقصة الأولى في هذه المجموعة «عاشق في عام 2050» تعكس ما لدى الكاتب من رغبة حقيقية للمكاشفة والتهيؤ لزمن ما بعد الحياة الاليكترونية التي نعيشها اليوم.. فالشخصية المحورية في هذه القصة المتمثلة بـ»هاني» وهو الراوي للأحداث، حينما استجلب الصورة النمطية للعلاقة العاطفية العربية التي لم تتغير رغم أن الزمن تبدل وتغير ووضع لها خيالا تاريخيا مستقبليا خصباً يكتشف «هاني» من خلاله أنه مجرد «معاكس» عبر أجهزة التواصل، ليتم ردعه وتوبيخه من خلال «حنان» الشخصية المستترة خلف جمال الأنثى.
في الفضاء العام للقصص يلتقط القاص محمد الشريف تفاصيل المعاناة الإنسانية، وعلاقات الشخوص بمن حولهم وما يحيط بهم من تحول وتبدل ومحفزات جمالية تثري النص وتخلق منه مناخاً لونياً يقبل عليه القارئ، على نحو الوصف المستفيض للشروق والغروب والبحر والليل واستعادة الذكريات، وبث شعور الحنين كما في قصة «ذكرى» حينما جاء النص على هيئة لوحة تشكيلية فاتنة، إلا أنها تحمل المفاجأة الصادمة والمؤثرة، حينما تكتشف أن هذه البرهة من الأمل والخيال الجميل ما هي إلا برهة خيال لسجين يظل يرقب الحياة من نافذة زنزانته.
الحيز الزماني في القصص متوازن، ولا يتعدى حدود النص وعوالم السرد، فالزمان قد يكون ومضة، أو تأملا أو مشهدا إنسانيا عابرا يلتقط فيه الكاتب ما يريد بلا إطالة أو إطناب أو استدعاء للزمان أو التاريخ.. فالحوارية هي من تحرك الزمن وترسم ملامحه بحدود متقنة حتى يكون حاضرا في زمن الحكاية الآنية وبحديث السمار والليالي الضاجة بالوله وترتيب الزمن ليأخذ شكل الممكن.
تدور مفصلات السرد في جل نصوص هذه المجموعة على العلاقة بين الرجل والمرأة، إلا أنها تأخذ روحاً عصرية تؤكد أن القاص يغترف من معين حكايتنا العصرية حينما يوظفها في فعاليات النص، وهذا إنجاز مناسب يحسب للكاتب الذي لم يجتر أو يعيد أي حكاية، إنما نحتها واحدة تلو الأخرى ليصوغ منها حكايتنا الجديدة وعلاقتنا التي لم تكتب بعد بل إنه حرص على أن تكون ذات مغزى، بل وللرجل والمرأة على وجه التحديد دور فيها كما في قصة «حياتان» وما يليها من قصص تنهل من معين معاناتنا اليومية.
لغة القصص هادئة ومتميزة وتفي بأغراض النص دون تكلف أو إطالة.. بل إنها عملت على أن تكون اللغة محرضا وجدانيا جميلا يستدعي جماليات الوصف وفتنة البوح الإنساني المعبأ بالتوق إلى كل ما هو جميل.
فاللغة هنا ذات إيقاع متناغم ما السرد بل هو أداة من أدوات بناء النص، فالجملة اللغوية لا يمكن لها إلا أن تأتي محملة على باعث في أو سبب مقنع لوجودها في النص ولاسيما وان القصص تنبش في حكاية الناس وعلاقاتهم ببعض، إذ إنه يتلمس ما هو جميل ومبدع وغاية في الإدهاش والصور المحفزة من اجل الاسترسال في بناء حياة أفضل.
فكرة النص في مجموعة الشريف واضحة وأسبابها معلنة.. إذ تتمتع كل فكرة برشاقة وحضور لا فت ومفاجأة تثير القارئ وتعيد ترتيب الحكاية من جديد.. فالقصص تنهل من معين الفكرة الألم المتمثلة في معاناتنا اليومية، وما يلتقطه الكاتب من صور يستشعر فيها الفائدة ويرسم بها من خلال النص مشاهد المتعة والفائدة، لتكتمل في كل قصة من هذه القصص ملامح النص القصصي الذي يضيف بعداً استشرافياً لدلالات الحكاية في حياتنا اليومية.
شخوص العمل في هذه المجموعة يظهرون بشكل متوازن، إذ تسيطر عليهم إشارات وتوجيهات الراوي الذي يدفع به الكاتب الشريف على نحو هادئ، ليكشف لنا جوانب من الحقيقة، ويكوِّن لكل شخصية اعتباراتها الفنية ويحاول بكل الطرق أن تكون علاقة ندية بين الرجل والمرأة، فضلا عن ذلك فإن الكاتب لم يتوقف عند مشهد معين إنما امتد لمشاهد الحياة في المدن والقرى والريف، ليلتقط لنا بعض الطرف ويصور لنا حجم التحول الإنساني والمادي في زمن لا شك انه يحمل التحولات والتبدلات.
***
إشارة:
وماذا بعد؟! (قصص قصيرة)
محمد الشريف
دار جداول - بيروت - 2013م
تقع الرواية في نحو (140صفحة) من القطع المتوسط