يفصح الكاتب والمحلل السياسي مدير تحرير صحيفة الجزيرة الأستاذ جاسر بن عبدالعزيز الجاسر عن بعد آخر لتجربته الإنسانية الطويلة مع الهم الإنساني والعطاء المعرفي والإعلامي.. تلك التي توزعت على تيارات مختلفة ربما يأتي أولها هم الصحافة والكتابة التي عُني فيها الجاسر ليترجم لنا من خلال هذا الواقع جملة من المشاهد الحكائية الشيقة و المعبرة.
وسم مجموعته القصصية هذه بعنوان استكناهي "أحلام السهارى" لتخمن ما وسعتك الحدسيات أن الكاتب يريد من هذه القصة ذاك الأمر أو من تلك الحكاية هذا الشيء، ليجعل قارئ هذه القصص متأملاً ما بين السطور أكثر من ميله نحو استلهام الخطاب المباشر للقصص أو الحكايات التي يوردها الراوي تباعاً.
فالقصة الأولى "ضحايا الذبح القادم" تمتاح من نبع هذا الحدس الأليم، حيث يجعل من "الثور" وهو الحيوان المغلوب على أمره في الحياة حالة فريدة يمكن لها أن تتقاطع مع تجربة الإنسان العربي في هذا الزمن المليء بالإسقاطات التي تنم عن حالة من الضياع والتشتت والغياب، فلم يعد للمتأمل أن يخلص إلى أي صورة ممكنة إنما باتت المشاهد تتولى على نحو أليم استطاع الكاتب (الجاسر) أن يوظفها بشكل مناسب.
في القصة الثانية "تلميع التاريخ" يورد الكاتب مشهداً تاريخياً أليماً من مخلفات الماضي، حيث يبرع في استنطاق تلك المشاهد من منظور سياسي يمكن أن يسقط قارئ على هذه الحكاية أو القصة شأناً آخر يحرك في الذات ولع التأمل والمقاربة بين مكان يبدو صامتاً أمام الناس في وقت يستطيع فيه الراوي أن يورد شواهد التاريخ لتحرك هذا العصف الذهني المشع حيث يستعرض ما كان لهذه البقعة من الأرض (ساحة المصارعة) التي يتقاتل فيها السجناء بطريقة بشعة.
ففي القصص التالية التي اشتملت عليها المجموعة رسالة هامة تتكئ على الحكاية بوصفها كائن شديد التأثير، بل إنها قوية ومثالية لعرض كافة الصور التي تراوح بين الألم والفاجعة والأمل والفسحة الممكنة التي قد يخرج منها الكاتب والقارئ على حد سواء برؤية عميقة تحقق للأول رغبته في الكشف، وللأخير رغبة التلقي ومعرفة الأشياء على نحو قصتي: (بابليون) و(قرصة أذن) فالكاتب يبرع في مد جسور التواصل مع القارئ من خلال حكايته الهادئة والبسيطة تلك التي تنزع نحو كشف الحياة العجيبة من وراء رحلة الحياة حينما تستعيد التاريخ بلمحة أو ببرهة قد تكون عابرة لكنها تجد ضالتها أمام الكاتب ليدونها بشكل استثنائي تحقق معادلة المتعة والفائدة.
فالكاتب الجاسر يعمد في سرد تفاصيله لهذه الحكايات والقصص والمواقف إلى لغة هادئة ورؤية لا تخلوا من إسقاط ضمني لحالة الواقع السياسي والاجتماعي الذي تعيشه الأمة لاسيما وأنه قد عني منذ زمن بهذه الخطابات، واستطاع أن يوظفها على نحو مناسب يمكن للقارئ أن يقبل عليها، لأن في مجملها ما هو مرتهن بخطاب النقد والكشف ومناجزة الواقع البليد الذي بات من المهم التحرر منه.
فالقارئ يجد دون عناء أن هذه القصص لا يمكن لها أن تكون مجرد حكايات عابرة إنما هي ومض استرجاعي لمشاكل عميقة ساهم تقادم الزمن في طيها ونسيان بعض تفاصيلها، فهاهو الجاسر في كتاباته يسجل لدى القارئ حضوراً ذهنياً يقف في موازاة الإحداث ليفتش عن مخرج مناسب يقيلنا من عِثَار التهالك والبلى في خطاباتنا الاجتماعية والسياسية والفكرية والمعرفية.
أمر آخر وفق فيه الكاتب في هذه المجموعة القصصية أنه ابتعد كثيراً عن الحشو والإطالة في السرد على الرغم من أن بطانة الفكرة واسعة، لنراه قد برع في اقتفاء الفكرة وتدوينها والرمز من خلالها.
فرغم أنه يستعرض في كل قصة من القصص سيرة قديمة أو حكاية دارسة أو ملمح وجداني قديم أو تأمل مكان موغل في العتق والتقادم إلا أنه لا يكف عن وضع إشارة استنباطية تكشف ما أراده الكاتب حيث يصور للمتلقي حالة الإنسان الذي بات يفقد الواقع وينسى مع الزمن بعضاً من الحقيقة التي لا يمكن للأجيال أن تتجاوزها حتى وإن تقادمت عليها الأعوام والعقود بل وحتى القرون، إذ يؤمن الكاتب جاسر الجاسر بأن الحقيقة ستظهر ويكون الفن والجمال والإبداع هو الشاهد القوي على رقي شأنها وعلو مكانتها.
***
إشارة:
أحلام السهارى
(قصص)
جاسر عبدالعزيز الجاسر
الرياض (ط1) 1431هـ - 2010م
تقع المجموعة في نحو (108صفحات) من القطع المتوسط.