الجزيرة «الثقافية» - سعيد الدحية الزهراني:
(.. قررت فجأة أن أركب أول طائرة إلى « أديس»... فاجأتني هكذا رغبة الرقص،، هذه هي أجسادنا ، تباغتنا أحيانا «أحيانا..؟؟؟» برغبات مضحكة وربما شريرة، لا بأس فلأتعود على التصالح مع جسدي على أن أفلسف أمر الرقص هناك تحت أمطار أديس وسمائها السخية ، عجيب هذا الأمر ، تشد رحالك من مدينة ترى الرقص عيبا ، إلى أخرى ، تتحاور أزقتها وشوارعها بالموسيقى دون صخب.... كنت دائما مجنونا هكذا.. لي طقوس يحسبها الناس إمعانا في الهروب من أقداري المختبئة دائما تحت وسادتي تشرق بالضحك لما عليه ليلتي من ترقب لحدث سعيد فإذا بالحدث الأكثر فجيعة هو الحاصل في الفجر.. تومض ذكريات بعيدة والطائرة تقترب من مطار أديس أبابا وتشق طريقها وسط شلالات من الحشيش الأخضر.. لأول مرة! ينتابني إحساس أن للحشائش قدرة الشلالات.. ها قد ابتدأ الرقص.. كل الشعوب ترقص على طريقتها فتحس بالعظام متماسكة صلبة ومتهورة ما عدا هؤلاء ... الرقص هو! الحياة بالنسبة إليهم ... تنساب أجسادهم كما الثعابين وتتلوى لتخترق الموسيقا الأمهرية وتعلو معها وتهبط وتعلو دون أن تتابع الأنفاس ..)
هذا مطلع نص قصصي بعنوان:(أستير «ذاكرة الرقص») للروائي السوداني خالد عويس والشاعرة الفلسطينية أمل إسماعيل.. ولولا الإطالة لكان هنا بكامل تفاصيله التي تؤنسن الرقص هذا الذي أصبح في عداد «العيب» رغم وجوده كأصل فطري في التكوين البشري بصورة عامة..
قد تكون فكرة هذا التحقيق غريبة بعض الشيء.. لكنها جاءت عبر ملاحظات عابرة سجلها المحرر من خلال التقاط تفاصيل العادي واليومي لشكل الحياة العامة للإنسان السعودي الذي مرّ بتحولات كبيرة خلال مراحل تكوينه على مختلف المستويات فكرياً واجتماعياً وثقافياً وجمالياً..
لسنا ببعيدين عن مهرجان الجنادرية.. في هذه المناسبة الوطنية الاجتماعية الثقافية.. بدت واضحة قسمات فطرة الإنسان السعودي رغم محاولات طمسها وتغييبها على امتداد أجيال.. اللافت وفق استبانة شخصية أجراها المحرر على عينة عشوائية من الزوار حول أهم ما يتبادر إلى الذهن حال خروج الزائر من القرية التراثية للمهرجان والتي اكتضت بالناس لدرجة غير مسبوقة.. أقول للافت إن وحدات عينة هذه الاستبانة العابرة أجمعت على أن المجتمع أسهل وأقرب كثيراً كثيراً مما صوره البعض من حيث الفساد وحب الشهوة ودعاوى الاختلاط ونحوها.. كان الزوار في حالة بهيجة مبهجة.. الكل ولن نتحدث عن حالات مرضية شذوذية يستمتع ويفرح بصدق ونقاء وعفوية ويعيش ويعايش سعادة الناس بالناس بعيداً عن محاكمات الخوافي والتعامل وفق رؤية مبطنة.. على أي حال.. يأتي الأبرز في هذا السياق.. وهو بعض البيوت «بيوت وأجنحة المناطق المشاركة في المهرجان» التي كانت تمتلئ أروقتاها وساحاتها بالزوار رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخاً سعوديين وأجانب.. كان المحرر يتساءل لماذا؟ ثم تأتي الإجابة التلقائية عن أن هؤلاء الناس وجدوا في هذه البيوت ما يحرك في دواخلهم شيئاً عميقاً.. ومباشرة تكتشف أن العامل المشترك مابين جل هذه البيوت التي تحضى بإقبال كثيف.. هو وجود تجسيد فعلي للفرح.. عبر رقصات وفلكلوريات مناطق تلك البيوت.. كان الناس يتمايلون - رجالاً ونساءً - على ضربات الطبول في العرضة السعودية.. كانوا أقرب إلى أن يغادروا الأرض التي يقفون عيها عندما يشاهدون «الجازانيين» لا يكادون يؤدون رقصتهم الجازانية الفارهة إلا على سطح يعلو سطح الأرض.. كانت أجسادهم تتلدن كغفوة مزاج عالٍ حينما تتمايل أجساد الرجال في رقصة السامري الشهيرة.. كانت القلوب والقامات تهتز عن آخرها كلما تعالت دندنات زير العرضة الجنوبية في بيت الباحة..ولكم أن تكملوا بقية ما يأتي ضمن هذا الإطار..
أقول.. بعد هذه الملاحظة التي ظهرت بصورة جلية وواضحة لدرجة تكشف عن وجود خلل اجتماعي ثقافي جمالي في بنية الإنسان السعودي المعاصر.. جاءت فكرة هذا التحقيق الصحفي محاولة لتتبع قصة الرقص كثقافة أرض وبشر ولغة جسد وصوت أروا ح وفطرة..
وهنا يتشكل توصيف مشكلة هذه التحقيق أو موضوعه الأساسي..حيث تتلخص في هذا السؤال: استناداً على الملاحظة الحية لتفاعل الناس الكبير والواضح مع أنشطة وفعاليات الفلكلوريات الشعبية الراقصة.. لماذا أصبح الرقص - بوصفه عنواناً للبهجة والفرح - في عداد العيبيات والقبحيات بل ومن خوارم المهابة والوقار.. لدرجة أصبح عندها مؤشراً للصفاقة ولمعاني المستكرهات الاجتماعية..؟ وبمعنى آخر:طالما يعشق الناس الفرح وتجسيده بصور ثقافية عالية ومبهجة عبر رقصات مستوحاة من الموروث الثقافي لهم «وهذا ما كشفت عنه ملاحظة التحقيق».. لماذا يستعيبون هذه الثقافة التي يحبونها وتعبر عنهم وتبهجهم.. ومن وراء هذا التعييب الذي كُرس إلى أن أصبح شكل ثقافة..؟؟
وعلى أي حال.. فيما يأتي عبر هذا التحقيق سنحاول أن نؤصل ونقدم تصوراً علمياً ثقافياً حول ثقافة الرقص بوصفه الثقافي الجمالي والإنساني.. يلي ذلك رؤى مختلفة نسوقها لأصحابها حول: ثقافة الرقص.. لماذا أُخرست لغة الجسد.. لماذا وُئد الجسد..؟؟!!
الأطفال يتمكنون من الرقص قبل أن يتعلموا النطق والتواصل
قبل أن نأتي إلى تعريف الرقص وتحديد بداياته ونشأته.. أود أن نشير إلى جانب يتعلق بالطفل والرقص وفق دراسة علمية أجراها باحث متخصص في هذا المجال..
فقد توصل باحثون إلى أن الأطفال يتمكنون من الرقص حتى قبل أن يتعلموا النطق والتواصل مع غيرهم بسهولة كبيرة.. وأشار موقع «لايف ساينس» إلى أن الأطفال ما أن يسمعوا صوت النقر أو العزف على أي آلة موسيقية أو شيء آخر حتى يتمايلوا وينسجموا مع نغماتها ويبدؤون بالرقص.
وأكد الباحث مرسيل زنتنر الأستاذ في علم النفس في جامعة يورك في بريطانيا، إلى أنه كلما تزامنت حركاتهم «الأطفال» مع الموسيقى كلما علت البسمة وجوههم، حيث أسمع الباحث زنتنر مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم ما بين خمسة أشهر وعامين عدة مقطوعات موسيقية متنوعة ورأى في كل مرة تجاوباً منهم حتى أن بعضهم كان يوائم الحركة مع اللحن الذي كان يسمعه، وقال «كان الأطفال يحركون أيديهم وأرجلهم ورؤوسهم وجذوعهم استجابة للموسيقى».
وأضاف زنتنر أن السبب في كون الطفل يرقص قبل أن يتكلم قد يعود إلى مرور البشر بمراحل تطور سبقت فيه الموسيقى اللغة المحكية، وهذا ما يفسر سهولة تعلمه الرقص قبل النطق.
(ما هو الرقص..)
بحسب موسوعة ويكبيديا الإلكترونية العالمية فإن الرقص هو عبارة عن حركات أعضاء جسم الإنسان وغالباً تؤدى بالأطراف الأربعة، وعادة ما تكون على أنغام موسيقية أو إيقاعية على حسب نوع الرقص. كما أن هناك رقصاً بالسيف، ورقصاً على الخيل والرقص كمجموعات كما في الحفلات وأيضا اشتهر الرقص مع النعام والرقص مع بعض الحيوانات أو الطيور الأخرى.
(النشأة.. والأنواع)
وفق المصدر السابق.. تؤكد أكثر المصادر والرسومات القديمة على أن الرقص كان ضرباً من ضروب العبادة أي أنه ديني المنشأ. إلا أن الشيطان استغل ذلك الفن وارتباطه الوثيق بالشهوة واستغله في بعض العبادات الوثنية والشيطانية.
وكما نعرف جميعاً.. فإن العرب قبل الإسلام كانوا يرقصون عند تقديم القرابين والنذر إلى الآلهة هبل وعز واللات. كما كان سكان إفريقيا يرقصون من أجل سقوط المطر أو طلب المساعدة من خطر يحدق بهم. وكان الهنود الحمر يقومون برقصة «بقرة الوحش» التي يؤديها مجاميع كبيرة من الرجال والأطفال والنساء حيث يلبسون أقنعة مصنوعة من الجماجم لإخافة الأرواح الشريرة الحاملة للمرض لطردها، والتي تدل على حب البقاء والتمسك بالحياة.
كما ظهر الرقص عند بعض الشعوب كوسيلة للتعبير عن الطبقات المضطهدة. وهذا ما يرويه لنا تاريخ رقصة «الفلامنكو»، حيث سن الملك فرناند وزوجته الملكة إيزابيل قانونا يقضي على أن كل سكان أسبانيا يجب أن يكونوا من المسيحيين الكاثوليك. وبالتالي يجب على المسيحيين غير الكاثوليك واليهود والمسلمين التحول إلى المذهب الكاثوليكي وإلا كان عقابهم الرمي بالرصاص. لذلك هرب المضطهدون إلى غرناطة التي كانت تحت سيطرة المسلمين وظهر غناء ورقص «الفلامنكو» الحزين الذي يعتمد على الإيقاع وسرعة ضربات الأرجل المعبرة عن الغضب والاستياء.
أما أبرز أنواع الرقص.. وهي هنا ليست على سبيل الحصر إذ يظهر أن هناك أنواعاً مختلفة ومتعددة ومتنوعة وتأتي تقسيماتها وأنواعها بحسب رؤى ومنطلقات وتقسيمات مختلفة أيضاً كما سيرد معنا حول الرقص الجنائزي الذي ليس من ضمن الأنواع الآتية.. وقبل هذا يشير ذات المصدر إلى أن سكان إفريقيا كانوا وما يزال البعض منهم يقوم برقصات لجلب المطر أو لطلب المساعدة في الحفاظ على المنطقة أو القبيلة من شر يحدق بها.. أما أبرز الأنواع فهي:
رقصات فنية: حيث تعد العديد من أنواع الرقص الحديث فناً ويحدد نوع الرقص طبقا لنوع الموسيقى المستخدمة إما لزيادة التعبير عن كلمات الأغنية، أو لدعم قصة أو رواية كما في بعض عروض الأوبرا، أو الباليه.
..ولعل أجمل أنواع الرقص الروحاني الباليه حيث يعتبر فناً بديعاً وساحراً يشد الناظرين إليه بدقة الحركة والانسجام الدقيق بين الجسد والروح واندماجهما الشديد بالموسيقى فيخلق بذلك جوا روحانياً نابعاً من أعماق الروح.
رقصات تعبيرية: ففي لحظة سعادة غامرة يقوم الإنسان أحياناً بحركات لا إرادية وتعتبر نوعاً من الرقص أيضاً.. وعلى سبيل المثال يقوم لاعب الكرة بالرقص لفترة وجيزة عند تسجيل هدفا أو إحراز نصراً على الفريق الآخر ونحوها.
رقصات رياضية: يعتبر الرقص أيضا رياضة ذات شعبية كبيرة حيث إنها أسلوب جيد في ممارسة الرياضة بطريقة مسلية وبدون تكاليف مالية وتكون غالباً مع خلفية موسيقية هادئة.
رقصات ترفيهية: وتكون في الحفلات أو في النوادي أو المنتجعات والأماكن السياحية حيث تكون على نغمات موسيقية تختلف من حيث الموقع والزمان.
رقصات حماسية: كان في القبيلة أيضاً لتخويف العدو بحيث يشهرون أسلحتهم وعدد وقوة رجال القبيلة أمام الزوار والمحتمل أن يكون عدواً مستقبلا وقد يكون ذلك في حلبة المعركة أيضاً لعرض مهارات رجال القبيلة.
**وبصورة عامة.. نحن نمارس الرقص في حياتنا اليومية بصورة عفوية..فعندما نسمع خبراً جميلاً فإننا نرقص بصورة عفوية دون أي إيقاع أو موسيقى أو نقوم بالرقص بأسلوب ترفيهي كما في المناسبات والحفلات الخاصة كذلك عندما نحزن على وفاة شخص عزيز فإننا نمارس رقصة الحزن بضرب الأيدي على الرأس والتمايل وترديد عبارات حزينة والانحناء والصعود.. يحدث هذا دون أن نعي أن ما نقوم به هو رقص.. لأن الرقص أصلاً لغة تعبيرية للحالة التي يعيشها الجسد في تلك اللحظة.. إنها لغة الروح في أدق التعابير..
كما أن الطب النفسي يؤكد أن الرقص علاج نفسي ناجع لكثير من حالات الكبت والضغوط التي يواجهها الإنسان في حياته اليومية.. وهنا نستحضر ما نراه بصورة شبه يومية في الشوارع والطرقات العامة من الكثير من الشباب.. حيث يوقفون سياراتهم ويترجلون منها ويؤدون رقصات مختلفة أمام الناس (في الغالب الأعم تكون رقصات أجنبية) في صورة تبرهن على أن هناك طاقات متفجرة ممزوجة بالبعد الفطري.. إلا أن هؤلاء الشباب لم يجدوا المكان الأنسب لممارستها وأدائها إلا الشوارع والطرقات العامة وربما في أماكن أخرى كالاستراحات والمنتجعات في جو مهيأ تماماً لوجود محظورات وممنوعات وتجاوزات كثيرة سواء على الصعيد الديني أو النظامي أو الأخلاقي أو الاجتماعي.. ولكن يبقى الحل في دائرة السؤال..!!
هناك من يرى فن الرقص كلغة فعلية تعبيرية توصيفية مجردة مستدلاً بالإنسان القديم الذي استطاع من خلال الرقص أن يتواصل مع أقرانه من البشر معبراً عما يريد بلغة راقصة.. وذلك لانعدام لغة التفاهم بين البشر آنذاك..
(ثقافة الرقص.. رؤية علمية)
يذكر الدكتور/ خالد ربيع السيد في مقالة علمية بعنوان: فن الرقص من البدائي حتى الباليه بمناسبة (اليوم العالمي للرقص 29 أبريل 2006): إن الرقص أو تحريك الجسد إرادياً وفق إيقاع منتظم، يعتبر أولى خطوات الإنسان البدائي نحو التعبير الفني، بل إنه الباعث الحقيقي لجميع الفنون المستحدثة بعد ذلك.. (فما إن فرغ الإنسان البدائي من تأمين حاجاته المادية الأساسية حتى شعر بإحتياجات أخرى تتعلق بالروح والجسد معاً.. فلجأ إلى (الحركة الرتيبة المدوزنة) ليتواصل بها مع الطبيعة أو مع الخالق أو مع الآخر أيضاً).. تلك الحركة كانت لغته الأولى نحو التعبير عن وجدانه بما يختلجه من مشاعر وإنفعالات غريزية مكبوتة، لا سيما في ظل إفتقاره إلى وسائل تعبيرية أخرى، وقلة حصيلته من الكلمات المنطوقة.
ويضيف: تعلم الإنسان البدائي الحركة الإيقاعية بإيحاء من الطبيعة التي حوله، التي تتحرك وفق حركة منضبطة محكمة مثل : حركة أمواج البحار. تموجات حقول القمح بفعل الرياح. شروق وغروب الشمس. تشكل القمر من الاكتمال حتى النقصان ثم الاكتمال مرة أخرى. دورة الفصول والإزهار والإثمار عند النبات.. ضربات قلبه. إغماضة رمش العين.. هديل الحمائم وصرير جنادب الليل.. الخ، فكان حرياً بغريزة المحاكاة لديه أن تحثه على خلق حركته الإيقاعية الإرادية ليعكس بها ما يخامره من مشاعر.
فعبر أول ما عبر بالحركة (الرقص) عن متغيرات حياته الداخلية: فرحه، حزنه، لذته، ترفه، آماله. ثم عن متغيرات حياته الخارجية في مناجاته إلى آلهته وشكره لها أو احتجاجه عليها عندما لا تواتيه، أو شكره لها عندما تمنحه المطر والثمر.
(ولهذا نجد المدونات التاريخية سواء أكانت صوراً أو منحوتات أو نقوشاً على الجدران الصخرية أو كتابة عليها أنها قد وثّقت لطقوس الإنسان الروحية المرتبطة دائماً بحركة راقصة موقعة..). (كان لأحدى القبائل البدائية في أستراليا رقصة تسمى “رقصة الزورق” يقف فيها الرجال والنساء صفوفاً متجاورة وهم ممسكون بالعصي التي ترمز إلى المجاديف. ويشرعون في تحريك أجسادهم والعصي في حركة تشبه حركة التجديف، وعندما تتوحد المجموعة في انسجام تام، كانت تغمرهم النشوة والالتذاذ. هنا يكون مرجع إحساسهم إلى استعادة ذكرى ما كانوا يفعلونه من قبل: التجديف فوق الماء). ذلك نوع من الرقص يختلف عن معظم أنواع الرقص القديم، في أنه ليس طقساً من الطقوس التعبيرية الدينية، إنه رقص يمارس من أجل التلذذ بذكرى معينة - إشباع روحي - من خلال التنفيس عن عاطفة الحنين، و التفريغ عن المكبوتات النفسية.
لذلك لجأ الإنسان البدائي إلى تلك الرقصات ليعيد التوازن الطبيعي، وليشعل الرغبة الجنسية من جديد. و كما يفسرها الأركيولوجيون والأنثربولوجيون بأن (هدف هذه الرقصات متصل بشعائر الإخصاب الجنسيي وغريزة الاستمرار والطقوس التناسلية لدى البشر والثديات بشكل عام).
ويتطرق الدكتور السيد إلى الرقص عند المصريين القدماء فيقول: بحسب الرسومات المنحوتة على جدران المعابد والمدافن الفرعونية، نجد أنه كان في حالة تطور مستمرة، بحيث يمكن تقسيمه إلى قسمين أساسيين : رقص ديني، ورقص دنيوي. والديني بدوره ينقسم إلى نوعين آخرين: رقص جنائزي ورقص تعبدي.
فقد ظل المصريون القدماء يؤدون الرقص الجنائزي منذ بداية الأسرة الأولى، وكان مسرحهم المعابد والأديرة. ويؤديه الرجال والنساء البالغين المتزوجين للتعبير عن قداسة الموت والجنازة، وهو رقص إيقاعي صامت، يتم التعبير به عن هيبة الموت ووقاره، ذلك أن الموت وكل ما يتعلق به في الحضارة الفرعونية يدخل في إطار القداسة والتبجيل المطلق.
ومن ضروب الرقص الجنائزي أيضاً رقص يعبر عن أحزان الموت وتقوم به خادمات المعابد المعروفات باسم الباكيات - ولعل هؤلاء هن الامتداد الجذري للنوّاحات اللواتي يستأجرن اليوم في بيوت العزاء المصرية للقيام بالبكاء نيابة عن أهل المتوفي. أو المهللات في مناسبات الزواج اللواتي يطلقن الزغاريد ويبثثن البهجة -. (والرسومات القديمة في مقبرة «حار محب» تصور هؤلاء الخادمات في حالات حركية تتراوح بين لطم الخدود ورفع الأيادي والتلويح بها والضرب على أعلى الرأس والركوع على الأرض وشد الشعور.. إلى آخره، وهو الشكل الذي تعبر به النساء المصريات في الوقت الراهن عن لوعة الحزن الشديد.. وكل تلك الأشكال تؤدى بطرق لا تخلو من صنعة التمثيل بحيث تأتي ضمن إيقاعات راقصة منتظمة).
والفرع الثاني من الرقص الديني : هو التعبدي الطقوسي الذي يقوم على الإيقاع والحركة الراقصة المصحوبة بترانيم معروفة ومتوارثة لديهم، يؤديها الكهنة بمصاحبة خادمات المعبد والمصلون من العامة الراغبين في التطهر والتعبد، وهو أيضاً إمتداد للطقوس الصوفية في (حضراتهم) الدينية سواء في (الذِكر) بكسر الذال أو في (الموالد) التي أستحدثت في العصور الحديثة.
القسم الثاني : الرقص الدنيوي وهو الذي يؤديه عامة الشعب في أيام الحصاد والأعياد والمناسبات، ويغلب عليها أداء (الأكروبات) الرياضية التي يتبارى فيها الراقصون والراقصات. والرسوم الفرعونية كثيرة في هذا المجال، وهناك الرقص الحربي الذي يؤديه الجند والعسكر ويمتاز بقوة حركته وعنفها ودقتها.
وبشكل شامل يمكن القول: إن الرقص في الحضارة الفرعونية يحظى بمكانة من الاحترام والتبجيل، فإبان إزدهارها أنشئت مدارس تعليم الرقص الاحترافي، لاسيما أنه غدى في مرحلة من المراحل التاريخية الاجتماعية لدى الفراعنة مهنة تتكسب منها الراقصات المحترفات والراقصين المحترفين، فتدفع لهم الأجور نظيره، الأمر الذي أعطاه الطابع التجاري المتعدد الضروب..
وهناك رقص دنيوي مرتبط بالحرب الذي يتخلله حركاته بعض المارشات العسكرية التي يرتدي فيها الراقصون الملابس الحمراء والأرجوانية ويمسكون بالأقواس والرماح والضلوع والمشاعل، ويرقص تلك الرقصة رجلاً واحداً يعبر فيها عن محاربة شخصٍ آخرٍ ،عدوٍ، متخيل. والملاحظ في الرقص الدنيوي الإغريقي أنه كان دائماً مصاحباً بالغناء وبالعزف على الناي أو الكنارة (الليرا) وبالإيقاعات المتنوعة. وهو الأمر الذي أدى إلى تطور الرقص المسرحي ( ففي مأساة أسخيليوس و سوفكليس و يوربيديس وفي ملهاة أرستوفانيس كان إشتراك الكورس عاملاً أساسياً) ففي المأساة يكون عددهم خمسة عشر راقصاً، وفي الملهاة يكون أربعة وعشرين راقصاً مع مشاركة الكورس في الغناء والرقص. والرقص في الملهاة يتميز بدقة خطواته، وحركاته تتسم بالليونة والحزن والبطْء.
(رؤى معرفية حول ثقافة الرقص) «مرض أيديولوجي الكآبة»
يقول المسرحي محمد العثيم.. حول عيبية ثقافة الرقص.. إن هذا تغير أخلاقي طارئ على المجتمع السعودي..حدث منذ ما يقارب ربع قرن.. حيث اختُطفت كثير من مظاهر الفرح الاجتماعي لحساب أيديولوجي قاتم مظلم يتنافى مع الفرح لصالح الحزن والكآبة وهو أيديولوجي سيطر على المجتمع بفعل فاعل وروج له بكل الوسائل فاعتُبر أخلاقاً.. فالرقص أصبح يتنافى مع (المرجلة والرزانة والعقل والحكمة) واعتُبر لهواً مذموماً محرماً مع أن القبائل في مختلف أنحاء المملكة العربية السعودية تمتلك ما ورثته من أنواع متعددة للرقص.. وكانت تمارسه في أعيادها ومناسباتها ولا تزال البعض منها تفعل إلى اليوم ولكن على خجل..
ويضيف العثيم: المجتمع يمرض كما يمرض الإنسان.. وعندما تمرض المجتمعات فإنك لا تتوقع منها سلوكاً حيوياً يوازن الأمور بين ماهو لربها وما هو لدنياها.. مع أن القرآن الكريم ذكر أن الحياة لهو ولعب وزينة وتفاخر.. فلم يحرم شيئاً من هذا بالنص إلا بقوله تعالى:»ولا تفرحوا فإن الله لا يحب الفرحين» والمقصود بهذا - والله أعلم - فرح السوء وليس فرح السعادة.. أما الفرح البريء النظيف ليس مذموماً سواء اقترن بعزف وإيقاع ورقص أوخلا منها.. بل هو مطلوب للترفيه الجمالي منذ الأزل..
ويؤكد العثيم على خطر تغلغل الكآبة في المجتمع قائلاً: إننا في واقع بعيد عن التعافي من حالة الكآبة التي فرضت على المجتمع.. فلا نتوقع أن تعود الحياة المرحة الفرحة للمجتمع في تحول مفاجئ ولكن الناس الآن أدركوا أنهم في حالة غير طبيعية من الكآبة إذ يُجرون لها جرا.. فإدراك المشكلة هو أولى الخطوات العلاجية ولا بد من مرور وقت لحدوث تحولات يستطيع المجتمع معها الخلاص من ما أصابه من كآبة فُرضت عليه بزعم الدين والتدين لأن الله لم يأمر بذلك ولا يوجد نص صريح يحرم الفرح أو الرقص..
ويواصل العثيم قائلاً: إن الفرح وما يتضمنه من فنون رقص وموسيقى غائب.. ولكن هناك ماهو مغيب من الفنون الأدائية الراقية التي حصلت.. إن المجتمع لا يجد متنفسا لا في مسرح ولا في سينما ولا في مقاهٍ ولا حتى حياة عامة.. وفي نظري أنه لا يوجد مجتمع في الدنيا تخلو منه مظاهر الفرح والجمال كما هو عندنا اليوم.. حيث تحول الترفيه إلى إجراء سري يقوم به الناس في خصوصية وربما تحت الأرض..ومن المذهل أن يلزم لك رخصة من الشرطة لتقييم عرساً فرحاً نستأذن فيه رسمياً وهذا أحد المظاهر الأخلاقية المعيبة التي جنيناها من مرض أيديولوجي الكآبة..
الروائي أحمد الدويحي.. يرى أن الفنون الغنائية والرقص المصاحب لها، يشكل طقوساً شعبية لها مناسبتها ودلالة رقصتها.. موضحاً هذا بقوله: أجد في التراث الجنوبي الغزير، ثراء وألوان من الجماليات الحياتية والفنية، تأتي في النسيج السردي ويمكن توظيفها، وتصبح موحية وملهمة والذات الفني الشعري والغنائي، وقد وقف كل روائي عند حالة إنسانية محددة كالمشري وأبو دهمان في الحزام، والفنون الغنائية والرقص المصاحب لها، يشكل طقوساً شعبية لها مناسبتها ودلالة رقصتها، والرقص فنون شعبيه لها طقوسها كالحصاد والبناء والختان والفرح والحرب والسلام، ونشهد الآن هذا الامتزاج الشعبي مع فرق الرقص الشعبي في الجنادرية، وتبرز بالذات فرق جيزان التي هي خير ممثل للمملكة، وتحظى بحضور مكثف في المهرجانات الدوليه.. ويضيف الدويحي: طبيعي أن يكون انحيازي للفلكلور الشعبي بلا حياد كروائي، ويتضح في نصي لأن الفلكلور ذاكرة الشعوب وتاريخها، وأجد في سياقاته ومفاصله المتنوعة والمتعددة متعة ولذة، فالتراث الشعبي بعمومه يمد بثراء، ويعطي الكاتب قدراً ومساحة الحرث في دقائق فعل وخلق إنساني هائل و مثير. ويستطرد: نعرف أن الروائي اليوناني الكبير/ كازنتزاكي خصص روايته الشهيرة زوربا للرقص في مشهدٍ، يوحي بقيمة الرقص كتعبير عن حالة إنسانيه، ويصدق سؤال مفاجئ باغتني به ذات ليلة مشاهد في أمسية ثقافيه في مركز الملك فهد الثقافي، يسأل عمّا يفعل راقص تعبيري تونسي بحال أحدهم، وتوجد ذهنيات ما تزال تعتبر الرقص عيبا، وتذكرني بروائي محلي يستحضر تجربة الروائي باولو كويلو (السلعية) مع التراث المشرقي فضائياً، فالرقص حالة إنسانية لا رجالية لا أنثويه بحتة، يزعمون تحريرها وهم أولى بتحرر عقولهم وأجسادهم، والفنون حالات إنسانيه ونبض حقيقي، لا تنفع معها عمليات التجميل المستوردة.. ويتذكر بعض المثقفين في الرياض وبالذات الشعراء القصيدة الرائعة للشاعر الفلسطيني/ فواز عيد الذي عاش بيننا فترة طويلة، وقد حضر فرحاً شعبياً في أحد الأحياء القديمة في مدينة الرياض، وكتب قصيدته الشهيرة (دان.. دان) التي يصور فيها فرح شيخ حضرمي انفعل منتشياً بالرقص وكتب قصيدته:
صفَّق الراقص.. فاصطفت على الجانبين
جدران، ونخل، ويدان
واستدار الليل (خوصاً) ووجوهاً
تتلوى: دان.. دان!!
كان شيخاً.. خلفه سبعون عاماً وصحارى
وعلى الخصر نطاق
وعلى الساح تلوب القدمان
تخفق الراحة كالنسر على الأخرى
وتعدو الساق خلف الساق
يلتف.. ويستعطي أكف المنشدين
يلتف راقصاً من عمره السبعين.. ينفض
جبين بارق.. تبكي - إذا أوجعه اللحن - شفاه ويدان
ويغني طائفاً بالساحة الكبرى
فتنهد أكفّ: دان.. دان
(الرقص.. وفلسفة الذنب والمغفرة)
القاص عبدالله التعزي..يفلسف الرقص عندما تتمايل الأجساد متخلصة من ذنوب مبهمة تم ارتكابها على حين غفلة.. ذنوب لم تبدو ملامحها واضحة تماما ولكنها مرتكبة ونشعر بعقابها يعتصر ضمائرنا. فينطلق الجسد برقصاته القوية دافعا المغفرة بين ثنايا الجسد.. يقول التعزي: كثيرا ما تعترينا رغبة عارمة بتحريك أجسادنا وتكون مصاحبة بوضع نفسي مريح. تشكل هذه الرغبة إدراكنا اللاواعي للجسد كمفهوم للكلام. نستطيع أن نقول به كلمات وجمل ورحلات من الأحلام رائعة رغما عنا. لا نملك حيالها أي قوة لنتوقف. نقوم بإطلاق الكلام من جميع عضلاتنا بلا استثناء تقريبا. يتحدث بها الجسم عن كل ما يدور في نفوسنا الواعية وغير الواعية. نبدو للبعض ككتاب مفتوح من الممكن أن يقرأ مباشرة إذا ما امتلكنا قدرة القراءة الجسدية.
ويضيف: في المقابل نجد أن أجسادنا تتمايل بالرقص متخلصة من ذنوب مبهمة تم ارتكابها على حين غفلة. ذنوب لم تبدو ملامحها واضحة تماما ولكنها مرتكبة ونشعر بعقابها يعتصر ضمائرنا. فينطلق الجسد برقصاته القوية دافعا المغفرة بين ثنايا الجسد وكأنها منطلقة منه. وكثيرا ما تكون ممزوجة بالعرق المتصبب لطلب الرحمة بقوة مجتمعة. كل اندفاعات الجسد المذنبة تلك لا تهدأ حتى يستكين التعب على الشعور بالذنب وتهدأ قسوة الضمير بعض الشيء.
ثم يأتي التعزي ليغني الرقص لدى الإنسان الحجازي قائلاً: في مكة والمنطقة الغربية بصفة عامة يعتبر المزمار رقصة الفرح والقوة و في أوقات قديمة تعتبر رقصة الموت. يقام المزمار بفرح يحيط بأقدام الرجال حول النار ويرتفع إلى عصيهم المتعالية محيطا قوتهم المتمردة بالكثير من النشوة. فتتمايل أجسادهم بقوة وتناغم مع أصوات الطبول، بأنواعها المختلفة، برقصات متناسبة مع صفقات الأيادي القوية المجتمعة بصوت الزومال الصادح في السماء كابتهالات تستجدي القوة لتحريك الأجساد.
وكما هي العادة الإنسانية المتوارثة منذ القدم دائما ما تكون المرأة رمز الرقص الدائم. تدفع بجسمها اللدن جنون الكلمات. تنطلق منها محركة المشاعر والغرائز. جاعلة من ليل البشرية شيطانا له جسد من كلمات لا تنسى. فتقترب نشوة رقص جسد الرجل كما يريد أن تراه المرأة من الأفق. ومتمازجة مع رتم الحياة الطاغي. تاركة تأثير المجتمع على لغة الجسد عند الرجل وكأنه صنم من الكلمات الجسدية الساخنة.
اختفاء الفرق بين الكلمات المسموعة ولغة الجسد المرئية في كثير من الأحيان يحجم الاندفاعية الإنسانية نحوى ما تريد من امتزاج في الحياة. تتسلط القدرات الجسدية على كلماتها خوفا وطمعا في انغماس غير مسموع. وكثيرا ما تكون الرقصات الجماعية في الأهازيج الشعبية هي انطلاق للحياة. تماس حقيقي بين الإنسان ومجتمعة راسمة الكثير من الأفراح. وقد تجعل من كلماتها المنطلقة من أجسادهم جميعا فرحا دائما مرسوم في عقولهم. تتقاذفه الأجيال فيما بينها. متحفزة بما تملك من قدرة على البقاء. فالرقص للرجل على إيقاع النار و الزومال والتهاب الأكف في المزمار هو بقاء لرمز متوارث. تجد أنه انسجام العقل مع الجسد ليخرج في النهاية من العقول إلى الواقع كلمات جسدية مترددة في سماء الحارة الكبيرة.
للتواصل مع المحرر:
aldihaya2004@hotmail.com