لطالما كان فعل القراءة نشاطًا إنسانيًا ذا أبعاد متعددة، يتجاوز كونه مجرد وسيلة لاكتساب المعرفة إلى كونه تجربة روحية وثقافية وفكرية، فالقراءة تفتح آفاق القارئ على عوالم جديدة، تُثري خياله وتُوسع مداركه، كما أنها تُتيح له استكشاف تجارب الآخرين، والانغماس في حكايات من عصور مختلفة أو عوالم خيالية، تعزز قدرته على الفهم والغوص في تلك العوالم وربما التعاطف معهم.
في العصر الحديث، ومع ظهور أنواع أدبية جديدة، أصبحنا نلاحظ ظهور طفرة في انكباب القراء على روايات تسرد عوالم الماورائيات والفانتازيا وقصص الرعب، التي أصبحت تهيمن على رفوف معارض الكتاب وتحظى بشعبية واسعة، خاصة بين فئة الشباب.
يجذب هذا النوع من الأدب القراء بأحداثه المثيرة وعوالمه الخيالية وبالتالي أصبح للقراءة دور مختلف، يتفاعل مع متطلبات الجيل الجديد واهتماماته، قد يكون القارئ الشاب اليوم يبحث عن مغامرات مثيرة وأفكار تتحدى الواقع وتفتح الأبواب أمام أسئلة فلسفية ووجودية، وهو ما توفره تلك الروايات التي تجمع بين التسلية والعمق، وهذا ما يدفعنا للتساؤل: هل هذا الإقبال على هذه الروايات مجرد موجة مؤقتة تزول مع الزمن، أم أنه يعكس تحولًا ثقافيًا دائمًا يعيد تشكيل المشهد الأدبي؟، ثم إن الإقبال الكبير على روايات الفانتازيا والرعب، على سبيل المثال، يعكس حالة من التوق إلى الهروب من تعقيدات الواقع إلى فضاءات خيالية، أو محاولة فهم المخاوف العميقة والبحث عن تفسيرات لها عبر الأدب، ومع ذلك، يظل السؤال قائمًا حول مدى تأثير هذه التحولات على الثقافة العامة؟ هل تسهم هذه الأنواع في الارتقاء بالمشهد الثقافي أم أنها تبقى حكرًا على الترفيه السطحي؟
لقد أصبح من الطبيعي أن نرى تحولات ملحوظة في ميول القراء وأنماط استهلاكهم الأدبي، لم تعد القراءة مقتصرة على المرويات التقليدية أو الموضوعات الكلاسيكية ، بل بدأت تكتسب أبعاداً جديدة، ربما كانت هذه الأبعاد موجودة منذ زمن لكن كان ذلك في الساحة الإبداعية الغربية، أما في عالمنا العربي فيكاد يكون موضوع الغرائبية والرعب نادراً بعد قصص ألف ليلة وليلة، ثم إن انفتاح العالم العربي وخاصة الشباب على عوالم الغرب والتقنية التكنولوجية جعلهم يغوصون في حكاياتهم وينجذبون أكثر لما يثير اهتماماتهم النفسية ورغباتهم الخيالية، فالروايات الخيالية توفر للقارئ هروبًا مؤقتًا إلى عوالم بديلة أكثر إثارة، حيث يُمكن التغلب على المخاوف وإيجاد حلول للصراعات بأساليب خيالية، مما يمنحهم شعورًا بالتحرر من القيود، وأدب الرعب، من جانبه، يستكشف مناطق الظل في النفس البشرية ويعبر عن المخاوف العميقة التي قد لا يجد لها الفرد تفسيرًا منطقيًا في حياته اليومية، مما يضفي عليه طابعًا نفسيًا وفلسفيًا جذابًا، ولذلك، أصبح من الضروري على الأقلام النقدية أن تلتفت إلى هذه الظواهر وأن تعكف على دراستها بشكل جدي، بعيدًا عن الاستهتار أو التقليل من شأنها؛ فالقراءة هي انعكاس لمتطلبات العصر وروح الشباب التي تبحث عن معنى جديد في عالم سريع التغير. ومن هنا، لا يمكن تجاهل العقل الشاب اليوم، بل يجب احترام اختياراته وتحليلها بعمق، لتقديم فهم أوسع حول كيف يمكن لهذه الأنواع الأدبية أن تسهم في إثراء المشهد الثقافي وتوجيهه نحو أفق جديد.
إن ما دفعني لكتابة هذا المقال ليس الاندفاع الكبير الذي شهده توقيع روايات الكاتب السعودي أسامة المسلم في الصالون الدولي للكتاب في الجزائر وقبلها في مصر والأردن والمغرب والسعودية فقط، بل بالأخص التفسيرات التي انتشرت حول هذه الظاهرة في مواقع التواصل الاجتماعي، إننا عندما ننظر إلى ما يحدث في معارض الكتاب، نلاحظ انقسامًا بين من يراها ظاهرة صحية تدل على عودة الاهتمام بالقراءة بين الشباب، ومن ينظر إليها نظرة استهزاء أو يعتقد أنها مجرد موضة عابرة تجذب قراء لا يشكلون وزنًا ثقافيًا.
تباينت الآراء على وسائل التواصل حول الدوافع وراء هذا الاهتمام الواسع بروايات الفانتازيا والرعب، حيث يرى البعض أن التفاعل الكبير مع هذه الروايات يعبر عن حاجة الشباب للهروب من واقعهم المعقد والنخبوي إلى عوالم بديلة توفر لهم مساحة للتأمل والتخيل، بينما يرى آخرون أنها مجرد صيحة أدبية سريعة الزوال، لا تقارن بالأدب الجاد أو بالتراث الثقافي العربي العريق.
لكن هذا التفسير الأخير قد يغفل عن حقيقة مهمة، وهي أن الأدب في تطور مستمر، وأن انفتاح الشباب العربي على الأنماط الأدبية العالمية يعكس رغبة في تجديد الرؤية الأدبية وإعادة تشكيل اهتماماتهم الثقافية؛ فما تقدمه روايات مثل تلك التي يكتبها أسامة المسلم وقبله أحمد خالد مصطفى وعمرو عبد الحميد ليس مجرد تسلية، بل نصوص سردية مليئة بالأبعاد الفلسفية والنفسية، تتفاعل مع مخاوف القارئ وتساؤلاته حول الوجود والمعنى.
إننا اليوم وبعد هذه المشاهد وجب علينا أن نقرّ بالتباعد الذي حدث بين النظريات النقدية التقليدية وواقع القراءة في العصر الحديث، يبدو أن التحولات التي يشهدها المشهد الأدبي القرائي قد تجاوزت أفكارنا القديمة وتحليلاتنا الأكاديمية التي أصبحت أشبه بعوالم محنطة، لا تلامس روح الشباب وتطلعاتهم.
ما نشهده اليوم هو انفجار حقيقي في حركة المقروئية -وكيفما كان صنف الأدب المقروء -، حيث يقرأ الشباب بنهم، - لكن لنقول ما يجب قوله - وهو أن غالباً ما تكون اختيارات الشاب القارئ لهذه الأصناف بعيدة عن الذائقة النقدية التي رسمتها أجيال من الأكاديميين والباحثين في نظرياتهم وتحليلاتهم ودراساتهم؛ لذلك فمن صواب الرأي أن لا نعتبر هذا تحولاً سطحياً أو نزوة مؤقتة، بل هو مؤشر على المعايير الأدبية التي أصبحت تهم قارئ اليوم وما نلاحظه في عناوين مذكرات طلبة الجامعات في التخصصات الأدبية حول اهتمامهم بدراسة هذه الروايات وحتى قراءتها من غير أهل الأدب هو مؤشر حقيقي لضرورة مواكبة هذه التطلعات والاحتياجات الثقافية والأدبية الإبداعية دون الحكم عليهم من أبراج عاجية تجعل الناقد الأكاديمي في ترفع عنهم.
إن مسألة المعايير النقدية لا يجب أن تظل محصورة في إطار تحليلات لا تتفاعل مع تطلعات الشاب، بدلاً من الاستمرار في هذه المسافة بين الناقد الأكاديمي وبين قارئ اليوم، يجب إعادة النظر في الأدوات النقدية والتفاعل مع الظواهر الأدبية الحديثة بطرق تقدّر ديناميكيتها وتنوعها.
لقد حان التقرب من حاضنة الإبداع الفعلية، حيث يعيش الكاتب وجمهوره في فضاءات تواصلية تفاعلية، فعلى النقد أن يخطو خطو المبدع ويحاول أن يحلل ويفهم احتياجات القارئ والمتلقي الذي يعيش في زمن متسارع تحكمه التكنولوجيا والانفتاح الثقافي على عوالم متعددة.
** **
د. الريم حجوج - الجزائر