د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
هل يأتي (أتَّزِرُ) بمعنى ألبسُ إزارًا؟
أبوأوس إبراهيم الشمسان
تقتضي القاعدة الصرفية أنّك إذا بنيت من الإزار فعلًا على (افْتَعَلَ) قلت (ايتزر) وأصله (ائْتزر) قلبت الهمزة الثانية الساكنة ياءًا لمجيئها بعد همزة مكسورة، ومضارعه (يأتزر) والمسند للمتكلم سيبدأ بهمزة مفتوحة (أفْتَعِلُ) فيكون (أَأْتَزِر)، ويجب قلب الهمزة الساكنة ألفًا (آتزر).
هذا ما تقرره القواعد ولكن جاء في الحديث {300 - وَكَانَ يَأْمُرُنِي، فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ}(1).
وأشكل استعمال (أتّزر) بمعنى ألبس الإزار عند بعض النحويين، قال الفارسي «فلا تدغم الياء في التَّاءِ كما أدغمت اتّعدَ واتّسرَ، لأن الياء ليست بلازمة. وقد حكى بعض البغداديين فيه الإدغام وهو عندي، على قياس قول أصحابنا، خطأ»(2) وتابعه الزمخشري(538هـ) قال «وإذا بني افتعل من أكل وأمر فقيل ايتكل وايتمر لم تدغم الياء في التاء كما أدغمت في ايتسر [من اليسر]، لأن الياء ههنا ليست بلازمة، وقول من قال اتّزر خطأ»(3). وتابعه في ذلك ابن الأثير(606هـ)(4). وصنفه الزمخشري أيضًا بأنه عاميّ قال «وَقَوْلهمْ اتَّزر عاميّ والفصحاء على ائْتزر»(5)، وتابعه المطرزي(610هـ) قال «قَوْلُهُمْ (اتَّزَرَ) عَامِّيٌّ وَالصَّوَابُ (ايْتَزَرَ) افْتَعَلَ مِنْ الْإِزَارِ وَأَصْلُهُ ائْتَزَرَ بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى لِلْوَصْلِ وَالثَّانِيَةُ فَاءُ افْتَعَلَ»(6).
ثم نجد تغيرًا في الموقف اللغوي عند الصغاني(650هـ) قال «ويَجُوز أن تَقُول: اتَّزَر بالمِئْزر، أيضًا، فيمن يُدْغِم (الهَمْزة) في (التاء)، كما يُقال: اتَّمَنه، والأصل: ائْتَمنه»(7). وأما ابن مالك(672هـ) فأخرجها من دائرة الخطأ والعامية إلى رداءة اللغة أو الشذوذ، قال «فإنْ كانت الواو والياء التي قبل تاء الافتعال بدلًا من همزة لم يجز إبدالها تاءً إلَّا على لغةٍ رديئة نحو: (اِتَّمَنَ) في أوتمن، و(اتَّزر) في ايترز»(8). وقال «وَمَا أَصْلُه الهمزُ مِنْ هَذَا القبيلِ فَإبدَالُ التَّاءِ فِيه شَاذٌّ نَحو: (اتَّزَر) -إذَا لَبِس إزَارًا- واللغةُ الفَصِيحة: ايتَزَر، ياتَزِرُ، ايتِزَارًا، فهو مُوتَزِر»(9).
وأما الاستعمال الوارد في الحديث فأورد أبو حيان الأندلسي(745ه) قولًا نسبه للفارسي «وَقَال الفارسي: هُو خَطَأٌ في الرواية: فَإنْ صَحَّتْ فَإنَّما سُمِع مِنْ قُوْمٍ غَيْرِ فُصَحاءَ لا يُؤْخَذُ بِلُغَتِهِم، وَلَمْ يَحْكِهِ سيبويه، ولا الأئمة المتقدِّمون العارفون بالصَّنعة»(10). وليس هذا بصريح تعلقه بالحديث.
ولكن ابن قيم الجوزية(767هـ) بيّن ما تقتضيه صحة الرواية قال «ومقتضى هذا أن يروى حديث عائشة -رضي الله عنها- {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فآتزر فيباشرني وأنا حائض} بمدة بعد الهمزة وتاء مخففة، لأنه: افْتَعَلَ، من الإزار، ففاؤه همزة قلبت ألفًا لسكونها بعد همزة مفتوحة، وأكثر المحدثين يروونه (أتَّزر) -بتشديد التاء من غير مد- وبعضهم يروونه بتحقيق الهمزتين [أَأْتزر]، ولا وجه لواحد منهما»(11). ونجد الأشموني(900هـ) بعد ذلك يورد القول على أنه رواية(12).
ونجد تقوية الاستعمال في قول الكرماني(786هـ) «و(فأتَّزر) بلفظ متكلم المضارع من باب الافتعال.
فإن قلت: لا يجوز الإدغام فيه عند التصريفيّ، قاله صاحب (المفصل) وقوله (من قال اتّزر خطأ). قلت: قول عائشة، وهي من فصحاء العرب، حجّة في جوازه؛ فالمخَطِّئ مخْطِئ أو أنه وقع من الرواة عنها»(13). وتابعه زكريا الأنصاري(926هـ)، قال «والحقّ جوازه عملًا بمذهب الكوفيين، وبنقل الثقات له عن عائشة؛ إذ قولها حجّة؛ لأنها من فصحاء العرب»(14).
وانطلاقًا من قول الكرماني يمكن القول إنَّ الاستعمال صحيح؛ إذ هو منقول عن عائشة، رضي الله عنها وأرضاها، وحسبك بها فصاحة، وأما الزعم بخطأ الرواية أو عامية المحدّثين أو ضعف اللغة أو شذوذها فكل ذلك مُتوقف فيه، وعلّق الزبيدي على المجد فقال «(لَعلَّه مِن تحْريفِ الرُّوَاة) قَالَ شيخُنَا: وَهُوَ رَجاءٌ باطلٌ، بل هُوَ واردٌ فِي الرِّواية الصحيحةِ، صَحَّحها الكِرمانِيُّ وغيرُه من شُرّاح البُخَاريِّ، وأَثبته الصّاغانيّ فِي مَجْمَعِ البَحْرِينِ فِي الجَمْع بَين أَحادِيثِ الصَّحِيحَيْن»(15).
والذي تميل إليه النفس أن للفظ (إزار) لغة قوية لم تبلغ اللغويين والنحويين وهي (وِزار) والواو المكسورة هي التي جعلت همزة في (إزار)، ومما يستأنس به أنّ اللفظ (وِزار) متصل استعماله في اللغة الدارجة في الجزيرة العربية ولا تكاد تسمعهم يستعملون (إزارًا)، ويبدو أنه استعمال متصل، بآية أنّه رواه المحدّثون وقيل إن (اتَّزر) عامية.
ليس غريبًا أن يكون (إزار) منقلبًا عن (وِزار)، قال سيبويه «ولكن ناسًا كثيرًا يجرون الواو إذا كانت مكسورة مجرى المضمومة، فيهمزون الواو المكسورة إذا كانت أولا، كرهوا الكسرة فيها، كما استثقل في ييجل وسيدٍ وأشباه ذلك. فمن ذلك قولهم: إسادةٌ وإعاءٌ»(16). والأصل وِسادة ووِعاء. وقال الفارسي «يقولون آزرني أي: صار لي ظهرًا، ويشبه أن يكون آزر لغة في وازر، كأكدت ووكدت، وآصدت وأوصدت وأرّخت وورّخت، ونحو ذلك»(17).
واستعملت بعض المعجمات الفعل بهذا المعنى، قال ابن دريد(321هـ) «واستثْفر الرجل بِثَوْبِهِ إِذا اتَّزرَ بِهِ ثمَّ ردَّ طرف إزَاره من بَين رجلَيْهِ فغرزه فِي حجزته من وَرَائه»(18). فتراه قال (اتَّزر) لا (ايتزر) مع أنه ذكر الإزار. فهل أخطأ من روى أو اتبع ابن دريد لغة ضعيفة أو شاذة أو استعمل طريقة العوام؟! وكذلك الأزهري(370هـ) قال «قَالَ شمر: رَأَيْت أَعْرَابِيًا بحزَيْمِيَّة وَعَلِيهِ شِبْهُ مِنديل من صوف قد اتَّزَر بِه»(19). وقال ابن سيدة (458هـ) «وشَمْلة مُكَوّذة: يَعْنِي شملة تبلغ الكاذتين إِذا اتزر»(20).
نخلص من ذلك إلى أن الفعل (اتّزر: يتَّزر) مشترك لفظي بين فعلين الفعل المأخوذ من (وِزار) والفعل من (وِزْر) أي ثقل(21)، والفعل من (الوِزار) على هذا هو في الأصل (اوْتَزَر)، وتقتضي القاعدة إدغام الواو في التاء باطراد كما في اتّصل من (وصل) فيقال: اتَّزَر. وبهذا يأتي (أتَّزِر) بمعنى ألبسُ إزارًا.
ــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري، 1/ 67.
(2) التكملة للفارسي، تحقيق مرجان، ص 581.
(3) المفصل في صنعة الإعراب، ص: 524.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 1/ 44. البديع في علم العربية لابن الأثير، 2/ 580.
(5) الفائق في غريب الحديث للزمخشري، 1/ 26.
(6) المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي (ص: 1/ 37)
(7) التكملة والذيل والصلة للصغاني، 2/ 402.
(8) إيجاز التعريف في علم التصريف لابن مالك، ص: 180.
(9) شرح الكافية الشافية لابن مالك، 4/ 2154. ويقصد بإبدال التاء إبدالها بالهمز.
(10) ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي، 1/ 310.
(11) إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك لإبراهيم بن قيم الجوزية، 2/ 1017.
(12) شرح الأشمونى لألفية ابن مالك، 4/ 99.
(13) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني، 3/ 165.
(14) منحة الباري بشرح صحيح البخاري لزكريا الأنصاري، 1/ 619.
(15) تاج العروس للزبيدي، 10/ 44.
(16) الكتاب لسيبويه، 4/ 331.
(17) الحجة للقراء السبعة، 5/ 222.
(18) جمهرة اللغة لابن دريد، 1/ 422.
(19) تهذيب اللغة للأزهري، 14/ 76.
(20) المحكم والمحيط الأعظم لابن سيدة، 7/ 131.
(21) جاء في المغرب في ترتيب المعرب للمطرزي (ص: 483): «(الْوِزْرُ) الْحِمْلُ الثَّقِيلُ (وَوَزَرَهُ) حَمَلَهُ وَمِنْهُ « وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» [الأنعام: 164] أَيْ حِمْلَهَا مِنَ الْإِثم». وفي تاج العروس للزبيدي، 14/ 360: «منَ الـمَجاز: {اتَّزَر الرجلُ} اتِّزارًا: إِذا رَكِبَ {الوِزْرَ}، أَي الإثْم».