أ.د. محمد خير محمود البقاعي
نتابع في هذه الشذرة حديثنا عن تاميزييه ورحلته التي ترجمها الدكتور آل زلفة، وكتب عنها بطلب من الشيخ حمد الجاسر د. يوسف باسيل شلحد (شلحت أحيانا)1917م -1997م؛ وهو باحث عالم وأنثروبولوجي فرنسي من أصل سوري عمل في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي في باريس مع نخبة من كبار العلماء الفرنسيين أمثال عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي ستراوس والمؤرخ جاك بيرك والمستشرق مكسيم ردونسون.
وأسهم في دائرة المعارف الإسلامية وموسوعة القرآن الصادرتين عن دار نشر بريل، ويكاد يكون من أوائل مؤسسي علم الاجتماع الديني العربي. لقد كتب شلحد حلقتين قيمتين ومفيدتين عن رحلة تاميزييه وترجم بعضها في مجلة العرب مج24، ع 7، 8،1989 م/1410هـ، ص 450- 462.
ثم أتبعها بأخرى مأخوذة من القسم الخاص بالعربية السعيدة من الرحلة إلى الحبشة التي سيأتي الحديث عنها. وذلك في مجلة «العرب» نفسها، مج 25، ع 1، 2،1990 م/1410هـ، ص 66-75.
لقد تحدث في البحث الأول عن الجزء الأول من الرحلة في بلاد العرب، الحجاز، وفي الجزء الثاني عن الحملة على عسير فحلل ونقل، ويبدو أن الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- أسهم في تصحيح أسماء بعض الأعلام والأماكن.
وفي البحث الثاني الذي حمل في مجلة العرب رقم «3» تحدث شلحد عن رحلة تاميزييه برفقة صديقه إدوارد كومب في أنحاء العربية السعيدة قبل توجههما إلى الحبشة. وأشار إليها بعنوان مختصر د. يوسف شلحد «رحلة إلى الحبشة» ووثقها في تعليقة آخر المقالة تحمل رقم (2) فقال في مقالته الموثقة سابقا (3): «تاميزييه» « كومب»، رحلة إلى الحبشة، ج 1، من 27-82، باريس، 1839م. وهو توثيق اختصر فيه د. شلحد عنوان الكتاب لأنه يحتوي على أماكن في الحبشة كالآتي:
Voyage en Abyssinie, dans le pays des Galla, de Choa et d›Ifat: précédé d›une excursion dans l›Arabie-heureuse, et accompagné d›une carte de ces diverses contrées 1835-1837
4 volume Paris, Louis Desessart – 1838.
وأوردت ترجمة العنوان كاملا في بحثي: «حمد الجاسر وكتابه» رحالة غربيون في بلادنا» وقد سبق توثيقه. والترجمة كالآتي: إدموند كومب وموريس تاميزييه، رحلة إلى الحبشة، إلى بلاد الغالا Galla، وخوا Choa ، وإفاط Ifat، مسبوقة بجولة في العربية السعيدة، 1835-1837م، 4 مجلدات مع خريطة لتلك البلاد، دار نشر Louis Desessart باريس 1838م.
وقد نقلت من هذه الرحلة حديث تاميزييه وكومب عن رمضان الذي قضياه في جدة قبل الانطلاق إلى رحلة اليمن والحبشة؛ وذلك في مقالة كتبتها في المجلة «العربية» بعنوان: رمضان في كتابات الرحالين الأجانب، العدد (577)، الجمعة 29/7/2011م. لقد نقلت النص من الجزء الأول للرحلة، وأعيده هنا للدلالة على تقصي الشابين وملاحظاتهما التي تجانب الصواب أحيانا لاختلاف الثقافات. قلت في البحث المشار إليه نقلا عن الرحلة المذكورة: يقول الرحالان الفرنسيان إدموند كومب وموريس تاميزييه ED. COMBES ET M. TAMISIER اللذان قاما بين عامي 1835 و1837م برحلة إلى الحبشة نشراها في عام 1838م مرفقة بالحديث عن جولة قاما بها في العربية السعيدة.
لقد تحدثا في الفصل الأول عن رمضان والاحتفالات التي تليه قالا: «كنا في يناير (كانون الثاني) 1835م، وبعد الرحلة التي قام بها كل منا على انفراد التقينا في جدة إبان شهر رمضان. وعلى الرغم من أن صبرنا كاد ينفد شوقاً للتوجه إلى الحبشة فإن رغبتنا في حضور الاحتفالات التي يعيشها المسلمون بعد انقضاء شهر الصوم جعلتنا نحزم أمرنا على الإقامة بعض الوقت في ذلك الميناء قبل الإبحار نحو الحبشة. خلال شهر التعفف هذا يعيش المسلمون في أثناء النهار حياة هادئة معتكفين في بيوتهم. فمنذ طلوع الشمس حتى غيابها يمتنعون عن الطعام والشراب، وعن التدخين وعن إتيان نسائهم. ولنا أن نتخيل ما يعانونه من مشاق في اتباع هذه الفريضة، ولن تعترينا الدهشة لرؤيتهم يتخذون كل الإجراءات الممكنة للابتعاد عن كل أشكال الجهد والتعب. فشوارع مدنهم كئيبة يخيم عليها الصمت، وإذا توجهنا بالحديث إلى بعض المسلمين المتقين فإنهم لا يجيبون إلا بإعراض ملحوظ لأنهم يخشون إن كلموك أن يبدر منهم ما يفسد صيامهم. كل مقاهيهم ومحالهم مغلقة، ولولا وجود الفقراء الذين لا يمكنهم الركون إلى الراحة وإلا فإن صيامهم سيكون لمدة أطول لأمكن القول إن جدة مدينة مهجورة. ولكن ما إن يحل الظلام حتى يصحو كل شيء، ويسارع الناس إلى المقاهي، وما تلبث النرجيلة العربية الأنيقة أن تستأنف نشاطها الصاخب: وتعلن منارات المساجد التي تشع منها الأنوار وفي أعلاها الهلال أن الليل مليء بالحيوية. إن تلك الحركة الشاملة، ذلك الضجيج، ذلك الذهاب والإياب في وقت ينبغي فيه أن يركن الجميع إلى الراحة، إن تلك الحركة التي نلاحظها في المنازل كلها، والأضواء الباهتة التي نراها في محلات التجار الذين يمارسون أعمالهم في ظلام د امس في شوارع ضيقة ووعرة، وظهور ملامح النساء على الشرفات، وصرخات الفرح، والأهازيج، تمنح جدة مظهراً خاصاً، أصيلاً يصعب أن تكون في بلادنا فكرة صحيحة عنه..». ثم تحدث المؤلفان عن إحسان المسلمين إلى خدمهم، وعن تنظيف الشوارع، ورش الممتلكات بالمياه، وعن النظافة المعجبة، وعن خروج النساء بزينتهن الشرقية الرائعة لزيارة الأقارب والجيران، وحضور حلقات الرقص في ساحة واسعة، الرقص العربي ورقص سكان مسقط ورقص الأفارقة، كما تحدثا عن المهرجين من الجنسين وما يقدمونه من لوحات ساخرة، وتحدثا أيضا عن بعض الألعاب الرشيقة التي يقوم بها الشباب ببراعة وخفة. وقالا: «على الجملة، كان في تلك الاحتفالاتكثير من الضجيج والحركة والفوضى»
وكتب الصديق الأستاذ الدكتور معجب الزهراني بحثا فيه نظرات معمقة من علم الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية والتوثيقية، تناول فيه رحلة تاميزييه بعنوان: شفافية الكتابة وغموض الواقع والأهداف: رؤية موريس تاميزييه لبلاد العرب، حوليات الجامعة التونسية، جامعة منوبة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، عدد 47، 2003م، ص 109- 144.
إن الجهود المبذولة تتضافر حتى في إطار التنافس لتقديم مثل هذه الأعمال في أتم صورة لها وهذا ما حصل لهاتين الرحلتين اللتين تعدان كنز معلومات عن مراحل تاريخيّة تجلو الغموض عن البلاد والعباد في حقب تاريخيّة مهمة. ولعل بلوغ هذا الهدف يقتضي تعاضدا، ومصارحة، وخلقا علميا يرى في أعمال الآخرين رافدا وليس اعتداء فتثور الثائرة ويبحث كل طرف عن خنادق حماية يظنها كل طرف حصينة فإذا بها تتهاوى أمام نسبية العلم وتفاوت القدرات.
لم يبق في مسار التاريخ، شؤونه وشجونه إلا طموحات مشروعة ما دام الله من علي وعلى أسرتي بالأمن والأمان في ظل أهل التوحيد والرؤية ملكها وعرابها وشعبها وإنني اليوم، على الرغم من العائق الصحي، أرجو أن أرى ما أحببت أن أراه من الكتب صادرا بعنايتي؛ وأهمها كتاب الدكتورة جاكلين بيرين الذي ترجم بعنوان: «اكتشاف جزيرة العرب، خمسة قرون من المغامرة والعلم « وعنوانه بالفرنسية
Jacqueline Pirenne, 1918-1990, La Decouverte de L›arabie, cinq siècles de science et d›aventure, Le Livre contemporaim, Paris 1958.
الذي ترجمه الأستاذ قدري قلعجي وقدم له الشيخ حمد الجاسر، بيروت 1963م، منشورات الفاخرية- الرياض دار الكاتب العربي - بيروت ط1: 1383هـ -1963م.
والترجمة الأنسب للعنوان: «اكتشاف بلاد العرب، خمسة قرون من العلم والمغامرة».
لقد كان تقديم الشيخ -رحمه الله- مبنيا على النص المترجم الذي اطمأن له لأن المترجم عارف باللغة الفرنسية. وجاء التقديم كعادة الشيخ يفيض علما ومعلومات قيمة، ولكن ما فات الترجمة من الأسماء الصحيحة للأشخاص والأماكن كان يستوجب مراجعة لم تجر لأن ما وجدته من ذلك بزادي القليل لا يمكن أن يفوت علم الشيخ وفطنته، ناهيك عما زاده المترجم على الكتاب (20 صفحة تقريبا) لا يمكن اكتشافه إلا عند مقارنة الكتاب بأصله الفرنسي.
أذكر ذلك لأن هناك بعض القائلين إن الشيخ أسهم في ضبط أعلامه وكتابة هوامشه وأظن أن ذلك لا يصح على إطلاقه.
وقد قرأت مراجعة مفصلة عن كتاب جاكلين بيرين في نسخته العربية وعن المقدمة التي كتبها الشيخ حمد الجاسر؛ هذه المراجعة بعنوان:» جاكلين بيرن ودورها في البحث عن تاريخ جزيرة العرب وآثارها»بقلم د. مسعود عمشوش على مدونته بتاريخ 21 ديسمبر 2012 م. ومما قاله في هذه المراجعة «لم تتناول جاكلين بيرين في كتابها إلا أولئك الرحالة الغربين الذين جاءوا إلى الجزيرة بين نهاية القرن الخامس عشر (1470) ونهاية القرن التاسع عشر (1870) وهذا يدل على زيف ما أضافه المترجم ولم يكتشفه الشيخ -رحمه الله-.
ومن طريف ما قرأته في الترجمة عن رحالة من القرن السادس عشر الميلادي؛ إذ جاء عند الحديث عن أحد الرحالة في الترجمة: أنه وصل إلى القصيم. ولما قرأت ذلك اعترتني الدهشة وعددت هذا من الاكتشافات، ولما عدت إلى الأصل فإذا العبارة: فلما وصل إلى القصير وهو ميناء مصري على البحر الأحمر وشتان بينهما.
ولعل ما ذكرته عن الشيخ حمد الجاسر -رحمه الله- في كلمتي الرثائية عند وفاته، ونشرتها صحيفة «الجزيرة» بعنوان «ليس رجلا مضى، ولكنه دهر انقضى»، العدد 1421، الأربعاء 27 سبتمبر الموافق 29 جمادى الثانية، 1421ه/ 2000م.
كانت تحمل ما أكنه ومثلي كثيرون لهذا الشيخ الجليل من ود وتقدير ويشرح بعض ما أشرت إليه سابقا في هذه الشذرات، ويسعدني اليوم إيراده مفصلا كما كتبه الشيخ -رحمه الله-. قلت في المقالة المذكورة:
«وكان السبب في اتصالي بالشيخ الجاسر، على البعد، كما ذكره -رحمه الله- ونقلته في مقالتي المذكورة وفحواه أنني أصدرت في عام 1981م ديوان شاعر عباسي هو محمد بن حازم الباهلي، صدر عن دار قتيبة بدمشق، وقد أشار الشيخ الى ذلك في كتابه: باهلة القبيلة المفترى عليها، طبع دار اليمامة، الرياض، 1410ه/1990م، ص 568: قال: وقد تصدى لجمع شعره أحد الأدباء من بلاد الشام هو الأستاذ محمد خير البقاعي، ونشر ما جمع بعنوان ديوان الباهلي وطبع في دمشق سنة 1401ه/1981م، وهذه مقطوعات من شعره، مما جمعه الأستاذ البقاعي، وقد ذكر مصادرها، ثم أورد نصوصا من شعر محمد بن حازم الباهلي، ص 568-572، ثم شاء الله أن أغادر الى فرنسا في 12/12/1983م لإتمام دراستي العالية، وفي عام 1986م أعدت النظر في الديوان ونشرت مقالة في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني بعنوان: ديوان الباهلي تكملة وإصلاح، استدركت فيها على عملي شعرا كثيرا، وصححت ما فرط مني في الطبعة الأولى، ولما عدت الى فرنسا بعد عطلة صيف 1986م، حمل البريد الي رسالة أرسلها الي الأخ الصديق الدكتور عبدالاله نبهان -رحمه الله-، وفيها رسالة من الشيخ حمد الجاسر الذي خاطب مجمع اللغة العربية الأردني برسالة أرسلوها الى عنواني في سورية/حمص، وأبردها الي في فرنسا/ليون الدكتور عبد الإله نبهان -رحمه الله-، كان في رسالة الشيخ بعض المرارة والشجا، ولكن فرحتي برؤية خطه المميز أنساني ذلك أيام كنت خلالها أعاود قراءة الرسالة، ولما عدت من فرحتي رأيت ان الخلق العلمي يحتم عليّ الرد على الرسالة، فبدأت بكتابة الرد، وملخص ما كتبه الشيخ ان ما ورد في مقدمة ديوان الباهلي ص 9 أشجاه، وهو ما نقلته عن الدكتور جواد علي في كتابه: «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، مج 7، ص 335، الذي نقله بدوره عن عبد الملك بن محمد بن إسماعيل أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ)، في كتابه: «ثمار القلوب في المضاف والمنسوب»، ص 119. ويطلب أن أذكر له المصادر القديمة الموثوقة التي ورد فيها ما أنكره الشيخ لأنه كما قال حينذاك كان بصدد كتابة مؤلف جامع عن هذه القبيلة المفترى عليها، وقد وجدت الشيخ قد ضمن كتابه المذكور ص 721 رسالتي فقال: وما أعظم ما غمرني من السرور حين حادثت أحد الإخوة من بلاد الشام ولعله من تلاميذ الشيخ (يقصد الشيخ الطنطاوي -رحمه الله-) مشيرا الى هفوة منه في الموضوع، وردت في مقدمة ديوان صنعه لأحد شعراء باهلة؛ إذ نقل قولالدكتور جواد علي دون تنبيه على خطئه في حق تلك القبيلة الكريمة، فكان فيما كتب به الي من ليون في فرنسا بتاريخ 24 جمادى الآخرة 1409ه/31 كانون الثاني 1989م ... فيما يخص العبارة التي أشجتكم فإنها منقولة عن كتاب الثعالبي، نقلها جواد علي في المفصل.. على أني أحب أن أبوح لأستاذنا اني تنبهت متأخرا الى ان ما ذكره الثعالبي والعهدة عليه في ذلك منفي بما ذكره المتقدمون الذين أشرتم اليهم، وكان عليّ أن آتي بأقوالهم، ولعلي فاعل ذلك في طبعة الديوان القادمة إن شاء الله، ولو لم تكن لباهلة من المفاخر الا انها أنجبت قتيبة بن مسلم الباهلي، وعبدالملك بن قريب الأصمعي، لكفاها فخرا، ولغرق ما يذكرون، وهو فرية، في بحر فضائلها...، وقد علق الشيخ على الرسالة بقوله: هذا مما ملأ فؤادي غبطة وسرورا من مسارعة الأخ الكريم الأستاذ محمد خير البقاعي للانصياع لقبول الحق، حين اتضح له، دون جمجمة أو تردد، وهذا هو النهج القويم الذي يجب على رائدي الحقيقة سلوكه.
وقد وعدت الشيخ بمراجعة ما كنت ذكرته عن باهلة في ديوان محمد بن حازم الباهلي، وفعلت ذلك عندما أشرفت بالمشاركة على تحقيق الديوان من جديد ودراسة قبيلة باهلة، وذلك في رسالة علمية في الجامعة اللبنانية طرابلس، قام بالدراسة والجمع والتحقيق الأستاذ مناور الطويل- رحمه الله-، وحصل بها على درجة دبلوم الدراسات المعمقة من الجامعة المذكورة 1997م، واعتمد على ما ذكره الشيخ في كتابه اعتمادا كبيرا.
طبع كتاب باهلة في دار اليمامة، الرياض، 1410ه/1990م، ص 568.
ما زال في النفس حاجات وفي القراء فطانة، ولعلهم اكتشفوا من خلال هذه الشذرات ما بين السطور في هذه الشؤون والشجون. ولنا لقاء.