حامد أحمد الشريف
وقد شرعت في قراءة نص «ستة رجال وفتاة»، لم أزل أتساءل بحرقة: أكان إحسان بحاجة لبداية قصته على هذا النحو المقلق، وإخراج سرديته من جنس القصة القصيرة بهذه السهولة؟! وكنت كلما تعمقت أكثر داخل النص ازداد حرقة وألـمًـا، وأنا أقف على نص قصصي إبداعي بامتياز، لا يعيبه إلا تلك المقدمة المباشرة، التي أخرجته من الخيال إلى الواقعية، وألبسته رداء السيرة الذاتية عنوة، ولقد تعاظم عليَّ هذا الأمر وأهمني، فلم أجد مهربًا إلا الإيغال أكثر في ثنايا النص، ودراسته لعلي أجد إجابة عن هذا السؤال المقلق جدًا، وكان بالفعل أن ابتسمت في نهاية النفق، عندما ظننت أنني استطعت التوصل لإجابة أقنعتني وأعادت ثقتي في هذا القلم العظيم، وقت اكتشافي أن ما كنت أظنه ضعفًا، كان أحد المفاتيح المهمة، التي قادتني لفك لغز هذا النص، وفهم مغزاه الحقيقي أو هذا ما اعتقدته.
وحتى نصل إلى اللحظة التي نتكلم فيها عن هذه المقدمة المزعجة، علينا تدارسُ النص أولًا، والتأكدُ من قيمته السردية، بعيدًا عنها، وهو ما فعلته عندما تجاوزتها، وأمعنت النظر في العنوان باعتباره العتبة الأولى، التي ندلف من خلالها للنص، وكان غاية في الإبداع والجمال، يضع تساؤلًا عميقًا تجيب عنه السردية، وينسج بذلك أول خيوط تعلق القارئ بالنص، من خلال مفردات ثلاث «ستة رجال وفتاة»، وكما يلاحظ فإن العنوان ظهر في قمة الغموض والإثارة والتشويق، واستطاع استفزاز القارئ، ولقد نجح في ذلك رغم تعدد مفرداته، وهو بذلك قد حافظ على قيمة العنوان رغم الكثرة، وقاد القارئ لاستنتاجات متعددة، ضاعفت من تعلقه بالحكاية، وبات يتساءَل في جوفه عن سر هؤلاء الرجال الستة والفتاة، وعن سبب اجتماعهم، وما نوع العلاقة التي تربطهم؟! وما مصيرهم في نهاية الحكاية؟!
إن هذه التساؤلات المستحوذة والمتطلبات الفهمية تعتمل بداخل المتلقي، وتزيد من ارتباطه بالنص، بحثًا عن إجابات شافية لها، مما يشير إلى القيمة الكبيرة التي حملها العنوان، عندما طرح كل هذه الأسئلة للبحث والتقصي وإشغال الذهن بها، محققًا مبتغاه؛ بربط القارئ بالنص، عكس العناوين الكاشفة؛ التي تفقد قيمتها وتكشف خبايا النص مبكرًا، وفي القصة القصيرة يعد هذا مطلبًا مهمًا جدًا، ما يجعلنا نقف على أول نجاحات النص.
ومع إيماننا بأهمية العنوان، الذي يشكل البداية الحقيقية للتلقي، إلا أنه لا ينهض بهذا الدور وحده، وتأتي مقدمة النص أو بداية رصد الحدث وسرده، أو ما يمكن تسميتها «فرشة القصة» بتساؤلاتها المستفزة، التي تستولي على المتلقي، وتصطحبه معها نحو النهاية؛ مهمة أيضًا، وينبغي عدم إهمالها، وجدناها هنا تحمل جوانب إيجابية وجوانب سلبية في ذات التوقيت، ففي الجزء الأول حضر المؤلف بشخصه وبلحمه وشحمه كما يقال، وتحدث بشكل مباشر مع القارئ، مقررًا أن الحكاية واقعية حدثت فصولها بالفعل، وأنه أخفى أسماء أبطالها، وغير بعض الوقائع للتمويه على من يريد تقصي خبرها، وكأنه بذلك يتعمد إفساد القصة إفسادًا عظيمًا ، وما كان له إن أراد كتابة قصة قصيرة إبداعية أن ينحو هذا المنحى المباشر، ويخاطب القارئ بهذه الطريقة المباشرة، حتى وإن بنيت بالفعل على أحداث واقعية، ومعلوم أن معظم القصص الإبداعية لها جذور واقعية، لا يشير إليها المؤلف مطلقًا، وإنما يسردها كخيال محض، ويجري عليها التغييرات المطلوبة، لتحقيق هذا الهدف، فكيف بقامة كبيرة مثل إحسان عبدالقدوس أن ينهج هذا النهج ويفسد نصه بنفسه؟!
لكنه، وقد استطرد في السرد، وفصل تلك المقدمة التي أزعجتنا عن بقية الحكاية؛ فسنتجاوزها وننطلق في قراءتنا مؤقتًا، من بعدها في محاولة لاكتشاف سرها ومعرفة مغزاها، والتأكد من جودة كامل النص قصصيًا.
في الواقع لم يعد لديَّ شك أن النص الحقيقي أصبح بالفعل يبتدئ بعبارة «عندما وضعت قدمها... إلخ» وكانت تلك هي البداية الحقيقية التي أبحث عنها، حيث لايزال غموض العنوان حاضرًا، ولم أجد أي إجابة لتلك الأسئلة الحائرة التي تدور في رأسي، وإنما وصفت لنا موقفًا ما، يتم الحديث فيه عن فتاة مجهولة ذُكر أنها جميلة ويظهر أنها قررت الدخول إلى لمجال الفني، فتلقفها عدد من الرجال المعنيين بهذه الأنشطة الفنية، وحددهم النص بستة رجال ما بين أدباء وفنانين ولم يذكر شيئًا غير ذلك، انطلق بعدها في سرد وصفي لا يجيب عن الأسئلة التي ساقها العنوان، بقدر ما كان يزيد من غلتها ويخلق استفزازًا حقيقيًا يُذكي حالة التعلق بالنص ومحاولة فك شفرته، نشعر بذلك من خلال قوله:
«عندما وضعت قدمها على أول درجة من درجات المجد، تلقاها بالتصفيق والهتاف ستة من الأدباء والفنانين.. وكان تصفيقهم وهتافهم لجمالها أكثر منه لموهبتها.
كانت جميلة، وفي جمالها وداعة الحمل الذي يغري الذئاب، وقد ظن كل منهم أنه يستطيع أن يقوم بدور الذئب دون أن يكلفه ذلك إلا أن يخفي أنيابه.»
وكما نلاحظ فإن النص بدأ يساعدنا على فك شفرته والوصول إلى الحكاية، ولكن، بطريقة متدرجة غاية في الجمال والروعة، وبلغة باذخة دون الكشف عن أوراقه، وشكل بذلك البداية الحقيقية المستفزة لحواسنا التي تسأل أكثر بكثير مما تجيب، وهي صفة ينبغي أن تكون عليها النصوص الإبداعية قبل الوصول للإجابات المطلوبة عند نقطة النهاية، فالمؤلف لم يفصح عن الحكاية كاملةً، وإنما بدأ في تبديد غموضها، فأصبحنا نعرف أن الفتاة جميلةٌ، وأن هناك ستةَ رجالٍ على هيئة ذئاب بشرية يحاولون الوصول إلى جسدها، لكنه لم يبين لنا منهجهم في ذلك، والنهاية التي وصلوا إليها، إلا في نهاية القصة التي أتت في تسع صفحات من القطع المتوسط. وحتى هذه النهاية كتبت بطريقة متقنة، اتصفت بالذكاء حيث لم تخبرنا صراحة بمصير هذه الفتاة والقرار الذي اتخذته، مما منح النص النهاية المدهشة التي يحتاجها والتي تديم تعلقنا به وبكاتبه وتجعلنا نتحاور كثيرًا حوله، وهي النهاية الإبداعية التي يتمناها كل نص ونجح المؤلف فيها، ظهر كل ذلك في قوله:
«وعادوا جميعًا إلى الفتاة ووجدوها تبكي..
كانت تبكي الرجل الذي أحبته ولم يشعر بحبها.»
وحتى نقرر قيمة هذه المروية، ومدى التزامها بمعايير السرد بعد تلك البداية المقلقة، فإننا نحتاج دراسة ارتباطها بعناصر السرد الأربعة «المكان، والزمان، والشخوص، والصراع» والوقوف على حواراتها ومغازيها العميقة، وكذلك اختبار رشاقتها من خلال ذلك كله، فإذا ما نظرنا إلى المكان سنجد أن النص وظفه بشكل رائع، بما لا يتجاوز احتياج الصراع، فظهر لدينا بداية «مكتب أحدهم» ولم يوصف هذا المكتب مطلقًا، فقط تمت الإشارة إليه كمكان اجتمعوا فيه، لتنسيق جهودهم للإطاحة بالفتاة واستيلاء أحدهم عليها. والمكان الآخر كان «منزل أحدهم» وأيضًا لم يوصف المنزل ولم يحدد صاحبه، ولم يوصف حتى مكان جلوسهم، فقط أُشير إليه بهذا التعريف المختزل جدًا والمجهول، وانطلق بعدها الحوار الجميل الذي ضم الفتاة وهؤلاء الرجال الستة.
فهل كان النص بحاجة للتعريف أكثر بهذه الأمكنة؟
بالطبع لا، ومنها نستشف أن المروية وظفت المكان توظيفًا رائعًا، شأنه شأن البداية والنهاية والعنوان، وهي بهذه الطريقة أبعد ما تكون عن الترهل النصي، ونستفيد من ذلك كناحية تعلُّمية في كتابة القصة الإبداعية، أن لا نسرد إلا ما يتعلق بمحور الحكاية وهيكلها البنائي حتى لو أهملنا عنصرًا مهم مهما جدًا في السرد كالمكان، فمساحة حضوره الأساسية مبنية على قيمته، وتأثيره في الصراع الموصوف وليس على قيمته المطلقة في السرد، وهو ما نجح فيه السارد نجاحًا باهرًا، ولعله من المهم الانتباه لمثل هذه الأمور البسيطة في قراءاتنا للنصوص، فأغلب ترهل النصوص يأتي من هذه الموازنات الخاطئة، عندما نسرف في العناية بعناصر القصة، من دون الحاجة لها ظنـًّــــا أنها من متطلبات القصة القصيرة ومرتكزاتها الأساسية.
وبدا أيضًا أن المؤلف وظف الزمان بدقة متناهية، وبالقدر الذي يحتاجه النص، دون زيادة أو نقصان فأطلعنا على زمن الصراع أنه في الماضي، مكتفيًا بهذه الإشارة المقتضبة، وأظهر لنا زمن السرد أنه في الحاضر، وهناك زمن أخير حدد ببضعة أشهر هي زمن المحاولات الأولية للوصول للفتاة التي انتهت بالفشل، واقتضت توقفها والاجتماع لمناقشة ماتم في المرحلة الأولى ومعالجة الأخطاء، وأيضًا نجد هذا الزمن غير موصوف بأكثر من حسابه الزمني، وكل ذلك يقودنا للقول مجددًا أن القصة الإبداعية تلتزم باحتياجات الصراع الأساسية، فكان هذا الإقلال الشديد في التطرق للزمن صفة إبداعية ميزت هذا النص وليس العكس، دفعتنا للإيمان بضرورة تتبع الزمن في قراءتنا التعلمية للنصوص الإبداعية للاستفادة من نقدنا للنص في كتاباتنا المستقبلية القصصية والنقدية.
وإذا ما انتقلنا للحديث عن الشخوص نلاحظ أن النص أيضًا تطرق لهم، بالقدر الذي يحتاجه من دون زيادة أو نقصان فهو لم يذكر اسم الفتاة إذ لا حاجة له باسمها، فهي حضرت بقيمتها الجسدية والجنسية وتعامل معها السرد وفق هذا الاحتياج، فذكر أنها جميلة وتشبه الحَمَل، أي ساذجة وذكر أنها «وديعة» أي مسالمة يسهل الوصول إليها، ولم يستغرق في وصف جمالها، رغم أنه عنصر جذب تشويقي قد يلجأ إليه بعض الكتاب لاستقطاب من يُسيل لعابـَهم هذا الوصف، وكان الحال نفسه مع الرجال الستة إذ لم يسمهم على الإطلاق فالنص لم يكن بحاجة أيضًا لهذه الأسماء، وكان حضورهم كالفتاة جسديا وجنسيا، وظل الأمر كذلك، حتى وصلنا إلى أحد منعطفات الصراع المهمة، التي تقرر فيها حديثهم عن أنفسهم بغية دفع الفتاة للارتباط بأحدهم، وهنا كان الوصف لكل واحد من هؤلاء الرجال، بما يسترق قلب الفتاة ويستميلها نحوه، وقفنا وقتها على أوصاف مختلفة لكل رجل من هؤلاء الرجال الستة وردت على ألسنتهم ، بالقدر الذي يحتاجه الصراع الموصوف، والشاهد هنا أن هذا الوصف أيضًا لم يتجاوز حاجة السرد مطلقًا، ولم يخل برشاقته المطلوبة، ما يدفعنا لمعاودة القول أن هذه السردية الإبداعية أجادت التعامل مع الشخوص ووظفتهم لإكسابها الصفة الإبداعية.
وفي وصف الصراع الظاهر وليس المضمر في هذه المروية، نجده قد أتى على عدة أشكال وبمساحات مختلفة، فالصراع الأساس الذي احتل مساحة السرد كاملة وتعلق بتنافس ستة رجال حول فتاة جميلة، لم يحتج غير إشارات بسيطة لتحقيقه وأتت في ثلاثة مواضع في قوله ص133: «وكان تصفيقهم وهتافهم لجمالها أكثر منه لمواهبها.» وقوله أيضًا: «وقد ظن كل منهم أنه يستطيع أن يقوم بدور الذئب دون أن يكلفه ذلك إلا أن يخفي أنيابه.» وقوله: «وبدأ كل ذئب منهم يضع خطة الهجوم، وقد بدأت الخطط كلها بطريقة واحدة، لا تتعدى إرسال الهدايا، وتدبيج المقالات في الإشادة بمواهب الحمل الوديع، ونثر الورود والرياحين في طريقه، وفتح أبواب المجد أمامه.. وقد فتحت بعضها عنوة بعد أن عجز الحمل عن فتحها بمواهبه.» وأخيرًا الاجتماع العاصف في ص134 الذي كان من نتيجته اكتشاف فشل خططهم القديمة، وبيان عوارها وتوحيد الجهود وتغيير الاستراتيجيات، التي انتهت باتفاقهم على الاجتماع بها والتحدث مباشرة معها، وإطلاعِهَا على اتفاقهم بخصوصها، ما يعني ظفر أحدهم بها، بعد استعراض كل واحد منهم لما يميزه وما يعيبه، وموافقتهم على هذا الأمر، اختفى بعدها الصراع الرئيس في ظاهر النص، وأصبح مضمرًا، يختبئ خلف الصراعات الجانبية التي تولت قيادة الحدث، ومعها أصبحنا نتابع صراعات الرجال فيما بينهم، بغية كسب ود الفتاة، وصراعات داخلية عاشها كل منهم أثناء وصفه لسيرته وترقبه للنتيجة، وصراع الفتاة مع كل سيرة تسمعها وموقفها منها، حتى وصولنا إلى عتبة النهاية، وكل هذه الصراعات، رغم ثانويتها، إلا أنها كانت في منتهى الجمال، قربتنا من النهاية وبررت للفتاة عدم قناعتها بكل ما قيل ولجوئها لحيلة أخرى عندما طلبت منهم الخروج من القاعة، وبقاء من يعتقد أنها تحبه فقط، وهنا وجدنا المروية تنهي الصراع بطريقة فنية، تبقي القصة في ذاكرة المتلقي أطول فترة ممكنة، تحقق ذلك بالطبع من خلال النهاية الجميلة التي سبق أن نوهنا بها، في قوله ص141: «وعادوا جميعًا إلى الفتاة فوجدوها تبكي.. كانت تبكي الرجل الذي أحبته ولم يشعر بحبها» وكان ذلك خاتمة الصراع الرئيس بكل تفرعاته.
والسؤال هنا، هل نجح النص في كتابة هذا الصراع؟! لتأتي الإجابة بدون أدنى تردد، نعم لقد نجح بامتياز في إدارة الصراع بدايته وذروته وتناميه وتلاشيه وصولًا إلى النهاية، وأجاد بالفعل في صنع حبكة فنية انتظم من خلالها الصراع بطريقة ذكية جدًا ومدروسة، فكان هذا العنصر كبقية العناصر في قمة الرشاقة التي يتطلبها النص الإبداعي، رغم حضوره القوي وإسهامه في صنع هذه القصة الإبداعية، المبنية على واقع حقيقي كما يخبرنا المؤلف إن كان صادقًا، نقله لنا باحترافية عالية.
إن أكثر ما ميز هذه السردية الحوار الذي بقي محافظًا على قيمته ورشاقته رغم عدم التزامه بقواعد كتابته المتعارف عليها حيث التفاوت في الطول، فبعضه كان طويلًا جدًا قد لا يتقبله القارئ والناقد في الرواية فكيف به في مروية قصيرة مثل هذه كقوله ص135و 134: «يا جماعة كل هذا لن يصل بنا إلى شيء.. ولنعترف أولًا بأن هذه الفتاة ليست ككل امرأة مرت بنا وطوتها ذكرياتنا، ولنعترف أيضًا بأن كلًا منا لا يريدها لليلة أو لأسبوع أو لشهر، بل يخيل إليّ- أنا شخصيًا-أني أريدها العمر كله.. اعترِفوا معي بأن ما بيننا وبين هذه الفتاة ليس عاطفة طارئة، بل هو حب.. حب صحيح تزداد حرقته كل يوم.. إن كلًا منا يحب نفس الفتاة، والفتاة لا يمكنها إلا أن تحب واحدًا منا فقط- أو هذا على الأقل هو المفروض-فمن هو هذا الواحد؟»
ولعل المفارقة العجيبة أن هذا الحوار كان مقبولًا وجميلًا وإبداعيًا، رغم هذا الطول، ولو أن الكاتب كان مُقَوْلَبًا ولم يكن مبدعًا، لاختار تجزئته وتوزيعه على الأفراد الستة، حتى يجتمعوا في نهايته على رأي واحد، ويظهر للناقد المقولب أنه قصير، ينسجم مع الصورة المثالية للسرد، بينما نجد هذا النهج التقليدي لو اتبع سيطيل الموضوع ربما لأكثر من صفحة، فكان ذكاء المؤلف في اختياره تجاوز قصر الحوارات السردية كقيمة متفق عليها، وتقدير احتياج الموقف السردي وما يناسبه، وهنا جانب تثقيفي مهم جدًا في الكتابة الإبداعية يتعلق بمعرفتنا للقوانين وإسنادها لعلتها واحتكامنا للمواقف السردية في قراراتنا، ما يعني فهم مغازيها وعلاقتها بقيمة النص حتى نتجاوزها متى ما قللت من قيمة السرد، أو نتقيد بها إن كنا بحاجتها، وهو ما درجت عليه هذه المروية في كل مفاصلها، ومما يؤكد هذا النهج الإبداعي؛ وجود حوارات قصيرة جدًا، كان الموقف يتطلبها مثل قوله ص 135: «ولكن كيف نجعلها تختار بيننا»، وكذلك اختزال بعض الحوارات إلى إيماءات وتعبيرات بالوجه دون أي حديث يدار كما كان في ص 139: «وابتسمت له الفتاة نفس الابتسامة، ثم أدارت رأسها إلى الخامس، فقفز واقفًا وصاح:» وهكذا نجد أن الحوار كان نموذجيًا في مساحته السردية وتقنيته الكتابية، وكل ذلك التزام باحتياجات السردية المختزلة والمكثفة، فظهر النص متماسكًا ورشيقًا وموجهًا باتجاه الهدف دون زيادة أو نقصان.
وإذا ما تركنا كل ذلك وذهبنا باتجاه مغازي النص وفلسفته، فإننا نقول: إن من أساسيات كتابة القصة القصيرة، اهتمامها بظاهر النص وباطنه، من دون إفراط ولا تفريط، أي إنها ذات مستويات قرائية متعددة، مع الاهتمام بظاهر النص أن يكون مفهومًا ومقروءًا من الجميع، وكل ذلك يصب في الحكاية الهيكلية للقصة، أن تكون مباشرة وبسيطة ويمكن التقاطها بسهولة والاكتفاء بها، وهذا ما تحقق بالفعل، فهناك حكاية بسيطة يلتقطها كل قارئ، تتعلق بالمنافسة على فتاة حسناء، وأن الرجال عادة ما يُبدلون منهجهم الاستحواذي إذا تمنعت الفتيات، ولم يستجبن لمحاولاتهم الأولى التي عادة ما تقلل من قيمة هؤلاء الفتيات، وتعتبرهن بضاعة رخيصة يمكن الحصول عليها بسهولة، والاستغناء عنها بسهولة أكبر، فيذهبون حينها باتجاه الخطوة التالية، للاقتراب منهن مُظهرين احترامًا أكبر لهن، وديمومة أطول للعلاقة، وتكون قوة هذه العلاقة بقدر تمنعهن وإفشالهن للمخططات الابتدائية.
وعادة ما يكتفي القارئ العادي بهذه الحكاية السطحية، ولا يبحث عن غيرها وربما يتلمظ جمالها، وأحيانًا قد لا يصل إلى هذه المرحلة في الفهم، ويكتفي بأن الرجال مشغولون دائمًا بالنساء وينوعون في طريقة الاستحواذ عليهن ويكتفي بهذه الحكاية البسيطة، بينما القارئ الحصيف يذهب عادة باتجاه المعاني المضمرة في النص، ويحاول الوصول لمستويات قراءة متقدمة تسبر عمق النصوص، وتستجلي المعاني الدفينة، وتصل للمستهدفات الفهمية العميقة، والنص يقينًا قد امتلأ وفاض بهذه المعاني المخفية التي تحتاج إلى غواص ماهر غواصا ماهرا يستخرج صدفاتها، إذ يمكننا النظر إليه من زاوية فلسفة التنافس على المرأة، ونجد فيه: الرجل لا يهتم بالمرأة التي أمامه، وإنما يكرس جهده لإظهار نفسه بالصورة التي تبحث عنها، بمعنى أنه يخطب ودها من خلاله، فيظهر ما يميزه وربما ما يعيبه سواءً أكان ذلك قولًا صريحًا أم سلوكيات توصل معاني معينة، محاولًا استثارتها واجتذابها إليه، بينما لا تهتم الفتيات بكل ذلك، قدر اهتمامهن بمخاطبة مشاعرهن وأحاسيسهن، وإظهار نفسه من خلالهن بتقدير احتياجاتهن الحقيقية، أي أن المرأة تريد أن تكون محورية ويتشكل الرجل وفق رغباتها لا العكس، لذلك كانت النهاية ببكاء الفتاة المصدومة، عندما وجدت أن منهم لم يهتم بها، ويحاول معرفة حقيقة مشاعرها واكتشاف انجذابها بالفعل لأحدهم.
بالطبع يعد هذا مستوى قراءة عميقا، وقد لا يفطن له القارى العادي، إلا أنه في ظني ليس كل الحكاية ولربما تخطى هذا النص الرجل والمرأة، وذهب باتجاه المدلولات السياسية، التي عادة ما تندس خلف مثل هذه النصوص الخداعة، خطر لي ذلك وأنا أستحضر مفردة المستعمِر والمستعمَر التي يوصف بها الاستعمار للدول الفقيرة عندما يُذكر المستعمِر ويؤنث المستعمَر فتكون الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا ذكورًا أقحاحًا بينما الدول المستعمرة كالهند ومصر والجزائر إناثًا، وإذا مافهمنا ذلك جيدًا فيمكننا قراءة النص بطريقة مختلفة جدًا فالمؤلف لربما أراد توظيف المروية لوصف الاستعمار والتهكم على سياساته القميئة، عندما تبدأ بالتهام الدول التي تستطيع التهامها بطريقة مباشرة، وتغير من أساليبها فيما لو جوبهت بمعارضة ولم تنجح الأساليب البسيطة المعتادة، تحاول وقتها إغراء الدول للانضمام إليها برغبتها، أو الدخول في تحالفات غير عادلة معها كدول «الكومنولت البريطاني» أو سن قوانين تستنزف مقدرتها كما حدث مع فرنسا وكثير من الدول الأفريقية، أي أنها تبحث عن مصالحها الشخصية ولا تهتم بهذه الدول المستعمرة إلا شكليًا، والأهم من هذا كله أن المروية بينت لنا أن هؤلاء المستعمرين متفقون على اقتسام الكعكة رغم تنافسهم ظاهريًا، ويجتمعون ويقررون توحيد جهودهم لتحقيق ذلك وما «ساكس وبيكو» عنا ببعيد.
بالطبع هذا الفهم للحكاية لم يأت من فراغ، فهناك سيميائيات وشواهد تدل عليه، فالمرأة غالبًا لا ترضى أن توضع في هذا الموضع، بحيث يقوم كل رجل بتقديم نفسه بهذه الطريقة المبتذلة، فهي وإن كانت ترغب في الرجل إلا أنها تتمنع، وهناك من يمنعها حياؤها أو اعتدادها بأنوثتها وجمالها، وأكثر من ذلك أنها تختار ولا تُختار، وبذلك فهي غالبًا تحدد خيارها مبكرًا، إن رغبت في بناء علاقة، لذلك يمكننا استبعاد أن تكون القصة تستهدف المرأة حقيقة، وبالتالي فالصورة المجازية هي الأقرب للفهم وهي يقينًا تتطابق مع الحالة الاستعمارية وتكون الأقرب للتأويل، والشاهد الآخر؛ أنه وقت كتابة القصة كانت الحركة الاستعمارية في أوجها، وخروج الانجليز من مصر كان قريبًا، وذيوله لم تزل تعبث في الحياة السياسية المصرية، فليس مستغربًا أن يذهب كاتب عبقري وفيلسوف ومفكر مصري بهذا الاتجاه، مستخدمًا تلك التورية الجميلة، وما حرصه على واقعية القصة وإخراجها من جنس الأدب القصصي، رغم قيمتها الكتابية والسردية، إلا هروبًا من فهمها على نحو صحيح، وإغلاق الباب مبكرًا في وجه من يكتشف دهاءه ومكره، وبالتالي فالكاتب ضحى بالانتماء للجنس الأدبي، في مقابل إيصال الرسالة العظيمة التي يريدها، وكان فيما يبدو يريد لها أن تتأخر في الوصول، حتى لا يحاكم بسببها أو يغضب الطبقة المخملية التي ينتمي إليها، وهي لم تكن بعيدة عن السياسيين الذين تستهدفهم بهذا الفهم، ولعل مما يؤكد هذا الفهم المتجاوز أن الراوي العليم لا يمكن أن يكون في قصة واقعية تحمل كل هذه التفاصيل الدقيقة، التي يستحيل الإلمام بها لمن هم خارج المشهد مما استوجب أن يكون الراوي بضمير المتكلم كما يفعل عادة إحسان في معظم قصصه، فأحد هؤلاء الرجال أو الفتاة لابد أن يروي لنا الحكاية، فما الداعي لاختياره إرباك النص مرة أخرى وإضعافه من هذا الجانب؟!! لولا أنه يهرب من استحقاقٍ فهميِّ معين، يؤكد الصبغة السياسية التي يحتملها النص ولا علاقة لها بالصورة الاجتماعية الظاهرة.
وهناك مستوى قرائي آخر، يتعلق بالمستهدفات الفهمية الثانوية البعيدة عن عصب الحكاية، وأعني بذلك الوصف الجميل الذي ساقه كل رجل للتقرب للمرأة، فهو يحمل أبعادًا قيمية ومغازيَ مستقلة عن الحكاية الأصلية، وتكمن أهميته، في قدرته على منح القصة قيمة إضافية، دون الإخلال بالسرد ودون التأثير على هيكليته أو مستهدفاته الفهمية الرئيسة، ما جعل النص أكثر دسامة وعمقًا، وبالتالي حقق أهدافًا أكثر، واستدامة أكبر واستهدافًا لشريحة أوسع من القراء، وهذه يقينًا ضمن أهم أهداف كاتب النص، ويمكننا رؤية ذلك في واحدة من هذه القصص على سبيل المثال، كحكاية الرجل الأول الذي اعترف بسلوكياته الخاطئة مثل الأنانية وحب الذات، وفلسفته لهذه الأنانية بأنها نابعة من إيمانه بأن حبه لنفسه يغذي ويقوي حبه للآخرين، وكيف أن هذا الحب المبرر في بدايته انقلب إلى خصلة سيئة بعد ذلك عندما هيمن عليه، فلم يعد بوسعه غير محبة نفسه، ويمضي في جلد ذاته حتى يصل إلى أنه يريد الفتاة أن تشفيه من هذه العلل القاتلة، وهو بذلك يستخدم خصاله السيئة وسيلة لبدء العلاقة معها، على أساس أن المرأة كما يُعتقد تغفر كل شيء طالما أن الرجل اختارها هي وأوهمها أنها دواؤه وأشعرها بقيمتها وأهميتها، وإن بطريقة مخادعة هدفها الوصول إليها من طريق فرعي بعد إغلاق الطريق الرئيسة، بدليل أن المرأة ترضى أن يخون الرجل شريكة حياته من أجلها، بينما لا تقبل خيانته لها، هذه القراءة مستقلة عن الحكاية الرئيسة لكنها مهمة جدًا ويمكن قراءتها على أكثر من مستوى في هذه السردية، مما جعل هذا النص يحمل قيمة كبيرة جدًا إذا ما نظرنا إليه من هذا الجانب، وهو ما ينطبق على كل الحكايات الست المسرودة، وفي كل الأحوال فإن الناقد أو القارئ الواعي يحق له تجيير الحكاية لمستهدفات فهمية لم تخطر ببال الكاتب نفسه طالما كان مقنعًا في تأويله ويستند على شواهد الحكاية المرصودة، وهو ما أجده متوفرًا في هذه الحكاية ومنحها القيمة القصصية التي تستحقها من كافة الجوانب، وكل ذلك يدفعنا للقول إن المؤلف تعمد بالفعل إخراج مرويته من جنس القصة لتمرير مغزاها العميق وتأخير فهمها.