في فترة الظهيرة، يسكن المنازل الهدوء في بعض نواحيه، تجتمع الأصوات في مكان واحد، تفوح منه رائحة البهارات، وزجر الأمهات، أما في الركن الهادئ من المنزل، بدا المكان معدًّا لاستقبال حدث هام، سفرة جديدة فارغة، على جوانبها الأكواب وصحون المقبلات، مكان في المنتصف ينتظر، يمشي سالم بين الضجيج والهدوء، يتجول باحثًا عن والده، لم يأتِ بعد، في عقله كانت الأفكار مضطربة، هو ينوي فعل شيء مّا، لا يدرك أثره ولا يستطيع تخمين جدواه، تساوت في نفسه الاحتمالات، ورغم ذلك، لا زالت رغبته ملحّة، لا بد أن يفعل شيئًا ليحصل على ما يريد، على ما يتمنى بشغف شديد، تلمع عينه ألقًا كلما شعر بنجاح ما ينويه، تبهت ملامحه متذكرًا الثمن الغالي الذي يدفعه، حين يجتاز بكل ما فيه بوابة الخوف الرهيب، خوفه على نفسه، وخوفه من المجهول، ومن والده، وعلى أمه، مخاوف تتعاضد على عقله وتزدحم، دون أن تشكل فرقًا في نواياه، خرج إلى باحة المنزل الخلفية، هناك يوجد سياج صغير، ينتشر في بيوت الأرياف، حيث دجاج بلدي وبيض يومي وديك غيور، سياج آخر، يبدو أكثر نظافة من سابقه، فارغ يشهد على ماضيه ما فيه، هنا كان يعيش الديك الرومي الضخم، الذي بقي لأيام قليلة قبل أن يقرر والده الاستغناء عنه، ليذوق لحمه بتلذذ دون أن يكرر التجربة، خلف السياج.. كان ثمة غرفة تعد مجمعًا لما يستهلك لمدة طويلة، بالنسبة إلى سالم هي غرفة الفضول، يحتفظ والده فيها بكل ما يعلوه الغبار، والدهشة، كلما أضاف إليها مدخرًا إضافيًّا يكتنزه، يحفه سالم وإخوته واجمين، كأنما ينتظرون ذات الوعيد في كل مرة، ألا يقتربوا من هذه الحجرة، هتفت أمه من الداخل، قاطعت كل توجيهاتها لتنده باسمه مرات عديدة، ركض إلى الداخل بينما يردد أنه قادم، وقف في المطبخ، قدمت إليه طبقًا ليحمله إلى السفرة: «احذر وإلا سقط منك، وإذا أسقطته فيا ويلك» خرج يحمله بينما يتساءل حول الويل الذي يغلف الأشياء برهبته، ماذا لو كان ما سيفعله يقود إلى الويل، هل سيكون هناك وعيد آخر يسمعه؟ أم أن عليه أن يتحمل الويل لمرة واحدة، ليتحرر من مخاوف هذا الوعيد الذي صاحبه منذ الصغر، ماذا لو لم يعد للويل وجود، فقط؛ مرّة واحدة من الويل، ثم يتحرر من المخاوف والوعيد إلى الأبد، ليته كذلك.
وصل والده أخيرًا، برفقة أخته التي تمشي بصعوبة، بدت يدها مضمدة، وعلى ساعدها وضع طوق عليه اسمها، خرجت للتو من المستشفى، بعد عملية تكللت بالنجاح، أسبوع من الترقب والرهبة، غاب الهدوء المستقر أثناءه عن هذا المنزل، ناداه والده مطالبًا له بأن يحضر الأكياس من صندوق السيارة، حملها بينما يستشعر وجود الهدية الثمينة بداخل أحد الاكياس، لا شك أنها لا تزال مغلفة بإحكام، وضع الكيس بداخل غرفة المعيشة، وعاد يجلس جلوسًا هامشيًّا في المكان، بينما استقرت في عقله النية، لا بد أن يحصل على هديته، هو يذكر جيدًا كل الخطوات التي أوصلت الهدية إلى أخته، الرحلة التي يجب عليه خوضها، سيعود نحو الركن المحرم خلف المنزل، هناك كانت، تشبع فضولها دون خوف، سمعت صوتًا، لم تخف، دخلت كما يدخل الآن، الصوت ذاته، هاهي أمامه، ماكينة الغسيل المستديرة، هنا حيث وصلت خطاها، وخطاه، ها هو يقف على حافة الهدية، نظر بداخلها، آلة غسيل عادية، تعمل برتابة رغم كل شيء حدث، أيرجع، أم يستجيب لداعي الهدية الملح، لا شيء يمكنه أن يعوض الحرمان لو تحققت مخاوفه، قاطعه صوت من خلفه: ماذا تفعل؟ التفت بذعر، ليجد أكبر إخوته ينظر إليه بريبة، حيث يقف عند ماكينة الغسيل، وزع نظره بينه وبين العاصرة التي تعصر الملابس، وبحركة سريعة، أدخل يده فيها، ليصرخ باكيًا بينما يحاول الجميع نجدته، حيث لا شيء بعدها سوى هديته التي يستحقها.
** **
- عبدالله الصليح