حامد أحمد الشريف
لا أُنكر أنّني قد أنساقُ أحيانًا، دون أن أشعر، خلف أفكارٍ قديمةٍ وقناعاتٍ باليةٍ طواها الزمن، وأُخضعُ قراراتي لها، مدافعًا عن فكرةٍ متفلِّتة، متذرِّعًا بصراع القناعات الذي يمتطيه البعض للهروب من الاستجابة إلى نصائح قد لا تعجبهم. يحدث ذلك رغم إيماني بالفلسفة التي تدير الصراع بين الأفكار، جديدِها وقديمِها؛ ما يعني أنّني مرِنٌ في تقبُّل هزيمة الأفكار القديمة إن اصطدمت بأفكارٍ جديدة تفُوقها، وشكّلَت قناعاتٍ أخرى حلّت محلّها.
إنّ هذه الحرب الطاحنة بين القناعات التي أحدّثكم عنها، كانت ستحُول بيني وبين اقتناء هذا الكتاب الذي نحن بصدده، يومَ توقّفت أمام فرع مكتبة الشروق في الطابق الأول من سوق «سيتي ستارز» بمدينة نصر، ونظرت إلى غلاف الكتاب، كنت سأعيده إلى مكانه رغم القيمة الكبيرة التي يحملها كاتبه؛ فمن ذا الذي يقنعني باقتناء كتاب يوثِّق حقبة «كورونا»، ويرصد كذلك التغيُّرات السياسيّة التي أعقبت عزل الرئيس المصري الراحل «حسني مبارك» وزوال سلطانه، وقدوم تنظيم الإخوان الإرهابي للسلطة، قبل الإطاحة بهم أيضًا صدقًا، ما كنت لأقتنيه فضلًا عن قراءته، لو علمت أنّه انشغل برصد هذه التحوُّلات الاجتماعيّة والسياسيّة والصحيّة، وأراد الاستفادة من ذلك في زيادة غلّته من الكتب المنشورة، كما يفعل غيره، واستخدمها مطيّةً لعملٍ سرديٍّ مصطنَع، ولم يتناولها كمعارف تاريخيّة مجرّدة.
أقول، إنّني ما كنت لأغامر باقتناء رواية كهذه، ليقيني وقناعتي الراسخة أنّ أغلب الروايات التي من هذا النوع تكون مجرّد ركوب موجة عابرة، ومحاولةٍ لاستغلال ندرة السرديّات التي تؤرِّخ للنوازل، مستفيدةً من سهولة تمريرها ورواجها، في ظلّ غياب المنافسة وارتهانها، في الغالب الأعمّ، للعواطف واللّعب عليها... كلّ هذه الأسباب مجتمعةً قد تجعلنا نهدر وقتنا وجهدنا على رواياتٍ متكلّفة، تفتقر إلى الحميميّة القرائيّة، والأفكار الأصيلة، والرسائل العميقة.
ذلك كلّه كان ليقف حائلًا بيني وبين «حاملُ الصُّحُف القديمة»؛ ولكنّني خُدعت بحجم الرواية، واسم الكاتب ودار النشر، والعنوان اللافت الذي لا علاقة له مطلقًا بتلك الموضوعات التي أنفر منها، بل إنّه أخذني معه إلى تلك الحياة القديمة التي طالما اشتقت إليها وغبطت أبطالها على ما كانوا فيه من أنعُم لا تعَدّ ولا تحصى... لأكتشفَ بعد التهامي فصلَيْن كاملَيْن في بضع دقائق، أنّ «إبراهيم عبدالمجيد» أفسدَ ثقتي فيه بوضعه مصنَّفًا يتحدّث عن جائحة «كوفيد 19»، أو ما بات يُعرف بـ»كورونا». لكنّني، عندما عدت إلى نفسي وأخذت أستعرض ما ذُكر في هذين الفصلَيْن، وجدت أنّني لا أستطيع تجاهلَ أنّ الكاتبَ حافَظَ على مكانته وقيمة قلمه، وكانت استعارته للجائحة مبرَّرة وموظَّفة أيضًا. وقتها تبسّمت، وقد اقتنعت تمامًا أنّ الثقة التي نوليها لبعض الأقلام وبعض دور النشر والعناوين المميّزة، غالبًا ما تكون في مكانها؛ فـ»عبدالمجيد» لم يمتطِ صهوة «كورونا»، كما قد نعتقد، رغم أنّ الفضاء السردي يدور في فلكها، ويرصد الفترة الزمنيّة التي أرّخت لنهايتها، ويذكر شذراتٍ من الحالة الصحّيّة والنفسيّة والشطحات الفلسفيّة التي واكبت مَن عاصروها، ولكنّه لم يسمح لها بالاستحواذ على السرد، ولم يطلق يدها في الحكي، كما فعل غيره، وإنّما أحكمَ الطوق حول عنقها، وأمسكها بيده، وقادها بالطريقة التي يريدها هو، وسمح لها بالظهور والغياب في الأوقات التي يقرِّرُها، ووظّفها ضمن أدواته السرديّة ليأخذَنا معه إلى الأعماق التي يستهدفها بالعنوان المختلف كلِّيًّا والبعيد عنها بالمطلق؛ فكانت الجائحة بكلّ مكوّناتها، مجرّد محدّدٍ زمنيّ، وأحداثٍ ارتبطت به، أو لنقل، تأثرّت به. لكنّ القيمة الحقيقيّة للسرد ظهرت من خلال بائع الصحف القديمة وصديقه الكهل، بطريقةٍ جميلة وذكيّة تترك للقارئ أن يعيش الكثير من الخيالات الجميلة ويرسمها بطريقته. وهي المنهجيّة الإبداعيّة التي تضمن للسرد قيمته مهما كانت الأفكار التي يناقشها.
صدرت رواية «حاملُ الصُّحُف القديمة» للكاتب المصري «إبراهيم عبدالمجيد»، في العام 2023م، عن دار الشروق المصريّة، وتقع في290 صفحة من القطع المتوسط. انطلقَ إبداعها من عتبة العنوان الذي حمل ثلاث مفرداتٍ كلاسيكيّة كانت على تماسّ مباشر بالسرديّة، وإن لعبت على الموروث القديم الذي يستهوي كثيرين - ولعلّي أكون أحدَهم - ويخلق قيمةً معيّنةً للحكي، بذكره الصحف القديمة. وكان المؤلف - في ما يبدو - قد تعمّدَ عدمَ وصف صاحب الصحف بالبائع مطلقًا طوال المساحة السرديّة المقرَّرة، واختار له أن يكون حاملًا، وهناك فرق كبير بين المصطلحَيْن؛ فالبائع يشير للتكسُّب المادّي، وقد لا يرتبط مطلقًا ببضاعته، خاصّة بالنسبة للصحف التي درجنا على رؤ يتها في أيدي البسطاء وصغار السنّ، يدورون بها بين وسائل النقل المتعدّدة، وبعضهم قد يكون أمّيًّا لا يقرأ ولا يكتب؛ بينما الحامل يحتمل أكثر من معنى، والأقرب أنّه معنيٌّ بما يحمل. فحتّى لو كان ما يحمله بضاعةً يريد بيعَها، فإنّ وصفَه بالحامل يشير بذكاءٍ لكسادها وزهد الناس فيها، وأنّ ما يدفعه لهذا الفعل ليس التكسُّب المادّي وإنّما الارتباط الوجدانيّ بها؛ ما يعني أنّه مثقّف وأديب، أو مفكِّرٌ وفيلسوف، أو - على الأقلّ - قارئٌ نهم. وقد أكّد هذا المعنى أنّ الصحف القديمة لا جدوى مطلقًا من عرضها للبيع في زمن «السوشل ميديا» الذي بات الناس خلاله يعزفون عن اقتناء الصحف الجديدة وقراءة محتواها، فضلًا عن القديمة التي تذيع أخبارًا تعود لأربعينيّات القرن الماضي، وتتحدّث غالبًا عن مشكلاتٍ اجتماعيّة وسياسيّة لا علاقة لها بالعصر الحالي، وإن كان لها مغازٍ عميقة - سنتحدّث عنها لاحقًا - تبرّر إيرادها. فالكاتب لم يكن يثرثر كما قد نعتقد، وإنّما يرصد الواقع بدقّة من زاويةٍ إبداعيّةٍ قد لا ينتبه لها الكثيرون؛ فتأتي البداية لتأخد بأيدينا وتجهِّزنا للإنصات إلى ما يريد قوله من خلال اللقاء الجميل الذي جمع بين الكاتب المخضرم «إيمان الناظر» وحامل الصحف القديمة الذي لم يكن يُجالس ويحادث غيره عند اجتماعهما المعتاد في مقهى البستان بميدان طلعت حرب.
وقبل الخوض في الحديث عن فكرة العمل الإبداعيّة التي أخصّص لها قراءتي هذه، أودّ الإشارة إلى بعض الوقفات المهمّة، ومنها البداية الإبداعيّة التي يسّرت على المتلقّي، محاوِلةً الأخذ بيده لفهم فكرة العمل، من خلال إشارتها إلى التغيّرات غير المنطقيّة التي صاحبَت تصرُّفات البشر وقت الجائحة، كتلك المرأة المستجدية حين بصقت على الخمس جنيهات التي تصدّق عليها بها «الناظر» وشلّته، وكانوا مجتمعين حول الشاي والقهوة ولم يكونوا يأكلون، بل لم يكن على الطاولة غير ذلك، بينما أصرّت هي على منحها سندويتشًا لتأكله من تلك السندويتشات الموضوعة على الطاولة (علمًا أنّه لا يوجد سندويشات فعليًّا على الطاولة)؛ وكذلك الـ»جرسون» (أو النادل) الذي أخذ يتحدّث بطريقةٍ فلسفيّة، قائلًا: «لم أرحِّب بأيّ أحد. أنا لا أعرف مَن سيأتي ومَن سيموت. لا أعرف من قابلت من قبل ومَن سأقابل. بل لا أعرف هل أنا الجرسون نفسه الذي كان يعمل هنا من قبل أم شخص آخر»( ص16). وكذلك في قوله: «- لم أسألكم عمّا تشربون لأنّي أراكم مشغولين وشاردين. اشربوا ما أحضرته فلن يختلف كثيرًا عمّا تطلبون. لقد أحضرت طلبات أكثر من عددكم. ستّة طلبات وأنتم أربعة. لن أعيد ما يتبقى. سأتركه وسيشربه شخصان لا نراهما بينكم» (ص280).
والوقفة الأخرى تتعلّق بفلسفة العودة إلى المقالات الاجتماعيّة والسياسيّة القديمة ومعاودة قراءتها، فهي تصف أحداثًا ارتبطت بزمن ما، ومن الجميل معاودة قراءة المشهد القديم بأدواتنا الحاليّة، للتأكّد ممّا إذا كان الكاتب محقًّا بالفعل في فهمه العميق للواقع واستشرافه للمستقبل. ولكن، الأجمل من ذلك كلّه، أن يتولّى أحدهم عرض فكرك السابق عليك، وتركك أمام ضميرك للتحاور معه وتحديد موقفك منه. وهو ما قام به حامل الصحف القديمة، عند مداومته على إرسال مقالات «الناظر» القديمة إليه. والجميل أنّ هذا البُعد الفلسفي لم يأتِ في قالبٍ تنظيريّ خبريّ فجّ ومملّ، بل كان سرديًّا شائقًا، يتولّى قيادة مشاهده حامل الصحف وبطلُنا «إيمان الناظر».
الوقفة التالية تتعلّق بابتهال زوجة «الناظر» التي جسّدت بصدقٍ دورَ المرأة المصريّة المحايدة التي لا علاقة لها بما يحدث خارج جدران بيتها، رغم تعلُّمها وحنكتها وقربها من المجتمع الثقافي. وكان في ذلك رمزيّة جميلة تشير إلى ثلاث نوعيّات من المركَّب الاجتماعي في مصر، أراد الكاتب استظهارها والحديث عنها بطريقةٍ غير مباشرة، وأعني بذلك: الناظر وحامل الصحف والزوجة. فكان أجملَ ما ذُكر هنا في وصف شخصيّة «ابتهال» وانعزالها عن كلّ العالم، حديثُها اللّامبالي عن موت صديق زوجها المدعو «منصور غالي» نتيجة إصابته بـ»كورونا»، والكَرَب الذي أصاب بطلنا عند معرفته بالخبر فجأة، بعد مهاتفة صديقه له؛ بينما تلقّت ابتهال الخبر بدون أيّ اكتراث، وهي تخبره خلال تحاورهما أنّ الخبر انتشر في «الفيس بوك» منذ ساعة، وأنّها توقّعت اطّلاعَه عليه. وتعود بعدها لترغّبه بـ»الكعك» الذي جهّزته خصّيصًا له، وتطلب منه تناوله مع القهوة التي أتت بها، متخطّيةً في ثوانٍ أمر صديقه المتوفّى. ومن فرط انكفائها على بيتها وانسلاخها من مجتمعها وقت الجائحة، أخذت تتحدّث معه وكأنّه ينهج نهجها في عدم المبالاة بالحياة والموت، طالما نجت هي وأهل بيتها. وكان في ذلك تصوير حقيقيّ للحال التي وصل إليها بعض الناس خلال أزمة «كورونا»، من عدم اكتراثهم بمصائب الآخرين طالما نجوا هم منها؛ أو لعلّنا نقول، إنّها الفلسفة الحياتيّة التي تَظهر في وقت الأزمات، عن دما يشيع الموت والخراب؛ وهو ما كان يحدث بالفعل حين ساد الخوف والهلع من المرض.
استوقفتني أيضًا قدرة الكاتب على الذهاب باتّجاه الخبريّة، والقفز نحو الفلسفة، بطريقة إبداعيّة و»كوميديّة» لا يملّ منها القارئ، رغم أنّ المؤلِّف يبتعد خلالها كثيرًا عن عصب الحكاية وصراعها الأساس، ساعيًا لإظهار بعض فلسفاته، واستعراض ثقافته الاجتماعيّة، وحتّى السياسيّة. رأينا ذلك، على سبيل المثال، في بعض العبارات الجميلة التي احتواها السرد، كحديث ابتهال لصديقتها منيرة وهي تواسيها في مصيبتها، عندما مالت نحوها هامسةً وقالت: «أشياء كثيرة تتداعى إلى ذاكرتي وأنفضها عنها. لماذا كل ما نتذكّره يؤلمنا رغم جماله؟» (ص170). من ذلك أيضًا تلك الفكرة المجنونة أو الفلسفة العظيمة التي قام الكاتب بتمريرها بذكاء يُحسَب له، رغم أنّه ليس لها أدنى علاقة بمحور السرد وغاياته الظاهرة أو الخفيّة، عندما أتى على ذكر توقيع إحدى الفنّانات التشكيليّات على لوحةٍ لها تخلو من أيّ رسومات، وتبريرها ذلك في صفحتها على «الفيس بوك» بقولها: «عندما يكون الفنّان عظيمًا فلا يهم الناس ما يرسم لكن المهم توقيعه، ولقد فعلتُ ذلك في هذه اللوحة رغم أني غير مشهورة بعد، وأتمنّى أن يأتي اليوم الذي تُباع فيه لوحاتي بتوقيعي فقط»! (ص213). فهل مثل هذه العبارات الجزلة يمكن رفضها تحت أيّ ذريعة؟ ومع ذلك، وضعها الكاتب في سياقٍ معيّن يجعلك تعتقد أنّها مرتبطة بأحداث لاحقة.
رأينا ذلك الانحراف عن المسار أيضًا في ما ذكره عن قصّة حبٍّ قديمة، متحدِّثًا بالتفصيل عن وسائل التواصل بين المحبّين، قديمًا وحديثًا، من دون أن تشعر بابتعاده عن المساحة السرديّة المستهدفة، بكلّ مكوِّناتها؛ فهو يخاطب وجدانك، ويطرح استفهامات حقيقيّة تحتاج لأجوبة، كحديثه عن الحال التي سيكون عليها الأحباب إذا ما التقوا بعد خمسين عامًا، بعد زوال مرحلة الشباب التي احتضنت دفء مشاعرهم ورغباتهم المجنونة، كيف سيستعيدون ذكرياتهم تلك وقد ضمرت النار التي كانت تؤجّجها؟! ولعلّ الأجمل من ذلك، وصفه مطاردة المحبّ لقُصاصات الورق المتطايرة من رسالة حبٍّ ممزّقة، ألقتها حبيبته من الشرفة. ظهر هذا الانحراف غير المبرَّر أيضًا في حديثه عن معبد الكتابة الذي لا ينبغي أن يدخله أحد غير الكاتب، وكيف غدا، في وقتنا الراهن، مجرّدَ مزارٍ يدخله الجميع، بعد شيوع «السوشل ميديا» واحتضانها كلّ الفئات الاجتماعيّة والعمريّة، وتوظيف الشباب لها في نشر غسيلهم الكتابيّ، وإظهار طقوسهم المقدّسة عوض إخفائها، كما كان الحال مع الكُتّاب الأوائل الذين لم نكن نرى كتبهم إلّا بعد نشرها... وكلّ ذلك، بالطبع، لا علاقة له بعصب الحكاية. إلّا أنّ أيّ قارئ، مهما كانت توجُّهاته وغاياته، لن يشعرَ بالنفور ممّا قيل، بل لربّما تعلّق به واستمتع بقراءته؛ فالكاتب استطاع بحِرَفيّة عالية تمرير تجاوزاته، بل وإقناعك بصوابها، وإضحاكك منها.
الآن وقد انتهينا من هذه الشذرات الجماليّة، يمكننا الانتقال للحديث عن الجزء الأهمّ المتعلِّق بالفوضى التي يصطدم بها قارئ الرواية، وقد يضيع معها إن لم يفطن إلى أنّها مستهدَفة بذاتها؛ فالصراع اعتمد عليها بشكلٍ كبير، بل إنّها كانت هي عصب السرد الذي قامت عليه الرواية، فلا يظهر أنّ هناك حكاية ما مشوِّقة ننتظر نهايتها، وليس هناك عقدة حقيقيّة تُربط وتُحلّ وينتهي السرد بها، بل هي في أغلبها أشبه ما تكون بالسيرة الذاتيّة للكاتب، تصف الحالة النفسيّة التي عاشها وقت جائحة «كوفيد 19». ويمكنك، أثناء القراءة، تخيُّل الأستاذ «عبدالمجيد» ينتقل معك من صفحة إلى أخرى، متوكِّئًا على عصاه، واصفًا رحلاته المتكرِّرة بين حدائق الأهرام، حيث يقيم، ومقهى البساتين في وسط البلد، حيث يحطّ رحاله ويلتقي بأصدقاء الحرف؛ أو في تنقّلاته داخل الشقّة، وفي أحاديثه المختلفة مع زوجته ابتهال، أو مع حامل الصحف؛ أو حتّى في جلساته المتكرِّرة في الشرفة، والفوضى التي كان يعيشها بالفعل وقت غياب زوجته، وحتّى في حضورها، حين انشغاله بتتبُّع القفشات والنكات، والضحك منها، أو الاستماع إلى الموسيقى، وتناول طعامه، ومطاردة نظراته لتلك المرأة المتبرّجة وقد أيقظت غرائزَه المتهاوية، واهتمامه المبالَغ فيه بالقطط والكلاب برمزيّتها الفجّة، وحرصه على عدّها ومراقبة ردّات أفعالها وربطها بما يشعر به، أو إلحاقها بالمشاهد التي يقف عليها وقت نباحها، وتماديه في تلك التخيُّلات، حتّى إسدال الستارة وانتهاء الملحمة.
لقد كان «عبدالمجيد» حاضرًا بالفعل خلال رحلتنا مع روايته، بشكله، وثقافته، وصمته، وهدوئه، وانفعلاته المقنَّنة، وكلّ متعلّقاته الشخصيّة... ممّا أوقعَنا في الفوضى السرديّة التي تشي بأنّك أمام سيرةٍ ذاتيّة. وهذا - كما هو معلوم - يعيب الرواية، ويقع فيه غالبًا الكُتّاب المبتدئون، عندما لا يكون بوسعهم خلق فضاءات تخيّليّة تبعدهم عن حكاياتهم الشخصيّة. وإن كنّا نقبل منهم ذلك، كبدايةٍ ينطلقون بعدها في رحلتهم الإبداعيّة الحقيقيّة، فإنّه لا يمكننا قبول ذلك من كاتبٍ متمرِّسٍ تجاوز هذه المرحلة، وباستطاعته خلق عمل إبداعيّ يبتعد كلّيًّا عنه. فكيف قبلتُه وأقدمتُ على التحدُّث عنه، في وقتٍ قد آليت على نفسي أن لا أقف على عملٍ إن لم يكن مقنعًا بمحتوياته الإثرائيّة، السلبيّة أو الإيجابيّة، بغضّ النظر عن صاحبه؟!
إنّ هذه الفوضى السرديّة التي تعَدُّ تجاوزًا أو كسرًا للقيود الكتابيّة، كانت مبرَّرة ويستحيل رفضها، كونها العصب الذي بُنيت عليه الحكاية؛ فهي اتّخذت منَ الصراعات المجتمعيّة الآنيّة المتمثّلة بـ»فيروس كورونا»، والاضطرابات السياسيّة التي شهدتها مصر، معتركًا يجمع شتاتها؛ وكذلك من حديثها عن بائع الصحف القديمة، بكلّ ما يحمله من معانٍ لا علاقة لها بالانضباط. هذه المحاور الثلاثة التي لم يبتعد السرد عنها مطلقًا، تعَدّ في أصلها مرتعًا خصبًا للفوضى، ولا يحسن الحديث عنها بانتظام، وقد أبدع في تناولها بهذه الطريقة المبتكَرة؛ فـ»كوفيد 19» تسبّب بفوضى عارمة شملت كلَّ العالم، ولم ينتهِ الحديث عنها حتّى وقتنا الراهن، وكان تعاملُ البشر معها في كلّ الأصقاع غيرَ منضبط، وإن تظاهروا بعكس ذلك، فغلبت التفسيرات والتأويلات انطلاقًا من المخاوف الشخصيّة، أو وفق احتياجات القيادات السياسيّة، وهيمنة وغطرسة منظّمة الصحّة العالميّة؛ ما جعل الالتزام بالقوانين والأنظمة مرتبطًا بالأشخاص وقناعاتهم، ومستويات تفكيرهم، ومخاوفهم أو اعتلالاتهم النفسيّة... فكان الانضباط وقت «كورونا» قرارًا شخصيًّا، لا يعاقَب المخلُّ به، ما أدخلنا في فوضى عارمة اجتاحت كلّ البلدان. وهو ما شاهدناه بالفعل مع بطل الحكاية الذي أجازت له فوضى الصراع المستهدَف هذا الظهور، فاستطاعت منهجيّة الصراع تمرير كلّ هذه التجاوزات، بل إنّها أدخلتها ضمن مكوِّناتها السرديّة، وهو ما جعلني لا أنفر من رتابة الأحداث حينًا وتسارعها أو بطئها حينًا آخر، فأنا قد عشت فوضى قرائيّة تشبه تلك الفوضى الكتابيّة التي عاشها الكاتب وتقمّصَها وأبدع في تقديمها لنا، واعتبرت أنّ هذه الشطحات الخياليّة، والنظرة الفلسفيّة لكثير من التفاصيل، إنّما هي نتيجة حتميّة لفترة العزل الإجباري في المنزل. وبتُّ أهتمّ كثيرًا بمقتطفاتي من الأفكار والفلسفات المتناثرة، وأقف مطوّلًا أمامها، من دون عناء البحث عن الخيط الذي يربطها بالسرد، بعد أن آمنت أنّ هذا الخيط لا وجود له مطلقًا في هذه المنهجية السرديّة المبتكَرة، وبتّ أهتمّ بالحكاية السطحيّة ولا أبحث عن سواها؛ فالرواية كُتبت بطريقةٍ أرادت فضح نظرتنا السطحيّة للمصائب التي تحلّ على رؤوسنا، رغم عِظَمها وحاجتنا للتعمّق فيها إن أردنا اجتيازها والتغلّب الحقيقي عليها.
ولقد مررت أثناء ذلك بمثاقفاتٍ وفردِ عضلات كتابيّة أوردها الكاتب، ولم أتضجّر منها، بل أُعجبت بقدرته على تضمين كلّ ذلك في سرديّته، وتماديه الكبير من خلال عرضه مقتطفاتٍ من مقالاته القديمة، بدون الخوف من ردّة فعلنا؛ فالفكرة المجنونة التي اعتمدها كإطارٍ للعمل منحته الحقّ في فعل ذلك وأكثر، بما أظهرته من عبثٍ حياتيٍّ طال الجميع بلا استثناء. وهو ما عبّر عنه الكاتب بوضوح في بداية العمل، ليوقفنا على أنّ الفوضى التي ستحيط بنا هي من ضمن أهداف السرد ومقتضياته، طالما أنّ الحياة التي تصفها الرواية بُنيت على هذه الفوضويّة؛ وبذلك، استطاع إطلاق يده بالكتابة كيفما شاء بدون قيدٍ أو شرط.
ولقد أتت باقي المحاور التي اتّخذها المؤلِّف بؤرة للصراع، لتمثِّل هي الأخرى قمّة الفوضى؛ فالسياسة العربيّة، كما يصفها الكاتب، وهي المحور الثاني المهمّ الذي بُني عليه السرد، لم تكن قائمة على قوانينَ وأسسٍ حقيقيّة وانتظامٍ معيّن، وإنّما كانت مجرّد نزاعاتٍ شخصيّة، واقتتالٍ من أجل السلطة، وخضوع للإملاءات الخارجيّة، وتراكب شخصيّات قياديّة قلّ نظيره، يجمع بين قمّة القوة والبطش والجبروت والعنجهيّة من جهة، وقمّة الضعف والخضوع والخنوع من جهةٍ أخرى، حسب المستهدَف بهذه السياسات، أكان داخليًّا أو خارجيًّا. وذلك يعني، بالطبع، أنّ المتهافتين على السلطة العربيّة وقعوا في أخطاء قاتلة، أوضحها السرد من خلال البُعد السياسي للعمل الذي ظهر بدايةً في حديثه عن تجربة الإخوان، واستغرابه من عدم تنبّههم للمؤشّرات المبكّرة التي أوحت بقرب سقوط حكمهم، والتفاتهم إليها ومعالجتها، وترْكها تتنامى حتّى قضت عليهم وأخرجتهم من الحياة برمّتها. وكذلك كان الحال مع الحقبة الجديدة التي قامت على أنقاضهم، منتهجةً أسلوبًا غير منضبطٍ في تعاملها مع الموقف، من خلال الحكاية الرمزيّة التي أوردها المؤلف وختم بها السرديّة، وهي قصّة موت «منصور غالي» في المعتقل، رغم أنّه كان من مناصري التغيير المناهضين للإخوان، وتعلُّق حبيبته منيرة به، ومحاولتها الانتحار نتي جة فقده. وكانت السلطة - حسب وصفه - قد ضاقت ذرعًا بأيّ معارضة مهما كانت هشاشتها؛ ما يشير إلى الفوضى التي نتحدّث عنها.
تكرّر ذلك أيضًا مع ضلع الفوضى الثالث، حامل الصحف القديمة، الذي كان حضوره في الوقت الضائع، بعد أن أحجم الغالبيّة عن مطالعة الصحف الجديدة، فضلًا عن القديمة، إثر انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي ذكرها كثيرًا المؤلّف، بغية تأكيد ما يرمي إليه من إيقافنا على الفوضى التي نهض بها حامل الصحف وهو يتناوب الظهور بآليّةٍ مجهولة، يقرّرها الكاتب ولا يصرِّح بها؛ بل وتعدَّدَ حضورُه كقيمةٍ في أشخاصٍ آخرين لا يعرفهم، ولم تفصح الرواية عنهم، كان دوره فقط الاجتهاد في تذكير البطل بالمقالات القديمة، ودفعه لقراءتها، وتعمّده تلغيز هذا الأمر بإزالة بعض العناوين والتواريخ، وكذلك حذف بعض أجزاء من المقالات بدون سببٍ ظاهر.
كلّ ذلك العبث السرديّ الممنهج لم يكن مبرَّرًا في ذهن القارئ، إذ لا إشارات تجليه وتظهر مراميه الخفيّة، ولم تبرِّره الرواية. وكان ذلك - كما أسلفت - متعمَّدًا وليس ضعفًا، الغرض منه إقحامُنا في الفوضى التي يريدها النصّ السرديّ، وقد نجح في ذلك بالفعل، وكان حامل الصحف يستحقّ حمل شعلة العمل، فهو قائد هذه الفوضى؛ فالصحف القديمة ترصد أخطاء الأنظمة السياسيّة، وتتحدّث عن الارتباك الذي يصيبنا وقت النوازل، وقد تعمّد إيراد هذا النوع من المقالات لعلاقتها المحوريّة بعصب الرواية، وقد وظِّفت بشكل رائع في الفوضى التي تحدّثنا عنها.
لا ينتهي الحديث عن هذا العمل الإبداعيّ المختلف، فهناك عدّة محاور يمكن الإبحار من خلالها لفكفكة السرد وسبر أغواره، إلّا أنّني سأتوقّف هنا لأقول، إنّ هذا المؤلَّف السردي استطاع باقتدار رصد الأحداث والصراعات المجتمعيّة الحقيقيّة المرتبطة بوقائع يعرفها الجميع، وهو ما يسمّى بأدب الجوائح أو الروايات التاريخيّة، وخلقَ منها صراعًا سرديًّا هادئًا وفكاهيًّا وحميميًّا، يأخذك بعيدًا، رغم عدم ارتهانه إلى العناصر المعتادة التي تقوم عليها الأعمال السرديّة، كتوظيف المكان، والاهتمام بالزمان، أو اللّعب على عناصر التشويق والإثارة والمفاجأة، أو الاشتغال على بناء الشخصيّات؛ فالعمل لم يهتمّ كثيرًا بذلك كلّه، رغم حضوره بأبهى حلّة، ولكن، بالقدر المعقول، وإنّما ذهب باتّجاه إقحام القارئ في الحياة الطبيعيّة التي نعيشها جميعًا، والتي تخلو عادةً من الانتظام، ونجح في استحضارها وتوظيفها لخلق الفضاء السرديّ الذي يريده، ولم يخشَ من ارتكاز العمل على موضوعاتٍ مستهلَكة يعرفها أغلبنا، وعدم اتّكائه على أحداث قديمة منسيّة يمكن التلاعب بها والتطرّق إليها بتصرُّف غير مكشوف؛ فكانت قيمة هذا العمل الحقيقيّة في قدرته على الحديث عن جائحة «كورونا» وحكاية الإخوان دون المساس بقيمة السرد، بانتهاجه سياسة «الفوضى الخلّاقة».